قضايا وآراء

"الحي يروّح".. أو الابن الشرعي لـ"ثقافة النمط"

تغلب على تونس بعد الثورة "الكانتونات الثقافية"- الأناضول
تصدير: "شكرا لكل من شتمني وسبّني فقط لأنني أصدرت كتابا.. تمنيت لو أنهم اطّلعوا على الكتاب وحكموا عليه بعد ذلك" (المغنى التونسي نور شيبة)

منذ أيام، صدرت في تونس المجموعة الغنائية الأولى للمطرب المعروف نور شيبة. وقد أثار صدورها جملة من ردود الفعل التي لم يتجاوز أغلبها المستوى الانطباعي، سواء أكان ذلك في وسائل الإعلام التقليدية أم في وسائل التواصل الاجتماعي. ولأننا لسنا من أنصار الكلام المرسل على مذهب "هذا على الحساب قبل قراءة الكتاب"، فإننا لا نكتب هذا المقال من باب اللطم على وضع الثقافة في تونس والتبرؤ من "نظام التفاهة" أو "زمن الرويبضة"، ولا نكتبه أيضا من باب الانتصار للحق في التعبير وتثمين "المكتوب" في زمن هيمنة الصورة. فـ"كتاب" نور شيبة ليس إلا مناسبة لتفكيك بنية الثقافة التونسية من جهة أسسها ومنطقها ورهاناتها، خاصة بعد الثورة التونسية وما كان لما يسمى بـ"النخب" (بمختلف مرجعياتها الأيديولوجية) من دور مركزي في إفشالها وفي تسفيه مشروعها المواطني.

عندما يصنع سجين حق عام (قضية مخدرات) لا علاقة له بالشعر ولا بالنثر الحدثَ الثقافي الأبرز في تونس، فإننا نستطيع أن نتفهم عودة الكثير من ردود الفعل إلى روح أغراض الشعر العربي التقليدي، خاصة غرضي الهجاء والفخر وإن من مكان خفي. فأغلب الردود لا تنفصل عن معاني الفخر والهجاء سواء أصدرت بدافع شخصي (مقايسة ضمنية بين وضع المتكلم -أي المبدع المقموع- الذي يستبطن الغُبن، وبين وضع "الكاتب" المحتفى به والذي يحتل مكانة غيره من هوامش الثقافة) أم بدافع أيديولوجي (رفض هذا "الدخيل" على أدب السجون المؤدلج بالضرورة، ذلك الأدب الذي لا تليق به إلا تجارب "سجناء الرأي" سواء أكانوا من اليسار أم من الإسلاميين).

لو أردنا اختزال الحالة الثقافية في تونس بعد الثورة، فإننا لن نجد أفضل من تعبير "الكانتونات الثقافية". وهو وضع بائس يعكس حالة التنوع الثقافي غير المتجانس والقائم على منطق التنافي الجذري، أو لنقل إنه وضع التنوع الثقافي -في الثقافتين الشعبية والعالمة- لكن في ظل الصراع الهوياتي وعدم الاعتراف المتبادل بين النخب العلمانية والإسلامية أو اليسارية واليمينية

ورغم تفهمنا لهذا المنطق ولدوافعه الواعية واللاواعية، فإننا نذهب إلى أنّه أبعد ما يكون عن "المعيارية" أو المثالية التي يدعيها، بل إننا نزعم أنه يُمثل مظهرا من مظاهر الأزمة الثقافية -بل المجتمعية العامة- التي تعاني منها تونس منذ بناء ما يُسمّى بالدولة الوطنية أو الدولة-الأمة.

لو أردنا اختزال الحالة الثقافية في تونس بعد الثورة، فإننا لن نجد أفضل من تعبير "الكانتونات الثقافية". وهو وضع بائس يعكس حالة التنوع الثقافي غير المتجانس والقائم على منطق التنافي الجذري، أو لنقل إنه وضع التنوع الثقافي -في الثقافتين الشعبية والعالمة- لكن في ظل الصراع الهوياتي وعدم الاعتراف المتبادل بين النخب العلمانية والإسلامية أو اليسارية واليمينية.

وبحكم هيمنة المنظومة القديمة على المشهد الثقافي، فإنها قد اعتمدت على سياسة ثقافية ذات محورين: أولا تثمين الأشكال الفنية المعادية للإسلاميين، بل للهوية العربية الإسلامية بصفة عامة، وذلك في إطار ما تسميه بمقاومة مشروع "أخونة المجتمع" والدفاع عن "النمط المجتمعي التونسي"، ثانيا منع الإسلاميين -أو حتى المتعاطفين معهم أو غير المعنيين بالصراع الوجودي ضدهم والداعين إلى تجاوز الصراعات الهوياتية- من الظهور في وسائل الإعلام العمومية والخاصة، ومن الاستفادة من الفضاءات الثقافية التي ما زالت تحت هيمنة المنظومة القديمة ووكلائها في اليسار الثقافي.

ولا شك عندنا في أن نور شيبة -ومن يقف وراء الآلة التسويقية له- يُقدمون خدمة جليلة للدولة العميقة، بوعي أو بدون وعي، وذلك بتسفيه "أدب السجون" ورموزه وتحويله من القضايا الكبرى إلى القضايا الصغرى، وبالتغطية على سجناء الرأي الحقيقيين والدفع بهم إلى هامش الإعلام. وهو ما يعكس صوابية تلك القاعدة التي جاء بها الفيلسوف الفرنسي روسو؛ من أن كل شيء مرتبط جذريا بالسياسة أو بطبيعة نظام الحكم (بما في ذلك المجال الأدبي).

أما "الإسلاميون" أو القريبون منهم أو حتى أولئك الذين يرفضون النمط الثقافي المهيمن لأسباب لا علاقة لها بالدين، فإنهم قد عجزوا عن فرض أنفسهم بإنشاء منابر إعلامية أو ثقافية بديلة (بل عجزوا عن الخروج من دائرة الذاكرة -هوية الغرباء- وإنتاج أدب مرافق للثورة)، كما ظلوا مسكونين بهاجس "الاعتراف" من لدن النخب التقليدية، مع ما يعنيه ذلك من استبطان الدونية من جهة أولى، والعجز -من جهة ثانية- عن التخلص من "وصاية" تلك النخب التي مثّلت أداة الهيمنة الأيديولوجية للنظام القديم وورثته بعد الثورة.

فالإسلاميون أو النخب "البديلة" التي تتحرك بمرجعية مواطنية بعيدا عن "حروب الهوية القاتلة" كانوا وما زالوا يعانون من تناقض جذري لا يقبل الحل: استبطان مرجعية النخب التقليدية المرتبطة وظيفيا بالمنظومة القديمة، وفي الوقت نفسه الرغبة في "التوافق" مع ذلك "المثقف" وتقاسم المشهد الثقافي معه.

ولا شك في أنّ التفكير بمنطق "التوافق الثقافي" -باعتباره امتدادا لمنطق التوافق السياسي- لن يُنتج إلا إعادة تدوير الثقافة المهيمنة وتقوية قبضتها على مراكز إنتاج المعنى، كما لن يكون محصوله إلا فشل "المثقف البديل" في عملية التجاوز الجدلي للمثقف "الرسمي"، أي تجاوز ذلك المثقف الذي تعترف به "الدولة العميقة" وتعمل على تقوية قيمته الاعتبارية بحكم ما ينتجه من " ثقافة" لا تتعارض مع خياراتها التأسيسية ولا تهدد مصالحها المادية والرمزية.

وإذا كان اليسار حسب قولة نور الدين بن خضر -أحد زعماء حركة آفاق/ برسبكتيف- هو "الابن الشرعي لبورقيبة" (أي لمشروع التحديث باعتماد اللائكية الفرنسية)، فإن "الحي" الحقيقي في المجموعة الغنائية لنور شيبة هو الابن الشرعي لخرافات "النمط المجتمعي التونسي" وللمثقف الذي رعى تلك الخرافات وعمل -بالتواطؤ مع أجهزة الدولة القمعية- على جعلها خارج دائرة النقد والمراجعة، ذلك "المثقف" الذي يحتفي بعلّيسة رغم أننا لا نعرف عنها إلا أسطورة التحايل على سكان البلاد الأصليين، ويتغنى بالكاهنة ويلعن "الفتوحات" العربية الإسلامية، ويهاجم "الاحتلال" العثماني ولا يجد حرجا في اعتبار "الاحتلال الفرنسي" بداية مشروع التنوير. وهو -أي مثقف النمط- يعود (يروّح باللهجة التونسية) ليحتل الموقع الذي يتنافس أصحاب السرديات الكبرى على احتكاره.

بحكم الحركة الانحدارية للزمن الثقافي التونسي، فإن "مثقف النمط " لا يحتاج الآن-وهنا إلى النضال السياسي ليحتل -بقضيته الصغرى- مركز المشهد الثقافي، إنه الأجدر بواجهة المشهد رغم أنف كل السرديات "المعيارية". وهو يفرض نفسه بمنطق الأمر الواقع في تحدّ صريح لتلك السرديات التي ما زالت عاجزة عن القيام بالنقد الذاتي لتناقضاتها الداخلية ولدورها في التمهيد لظهور نور شيبة وأمثاله

بحكم الحركة الانحدارية للزمن الثقافي التونسي، فإن "مثقف النمط " لا يحتاج الآن-وهنا إلى النضال السياسي ليحتل -بقضيته الصغرى- مركز المشهد الثقافي، إنه الأجدر بواجهة المشهد رغم أنف كل السرديات "المعيارية". وهو يفرض نفسه بمنطق الأمر الواقع في تحدّ صريح لتلك السرديات التي ما زالت عاجزة عن القيام بالنقد الذاتي لتناقضاتها الداخلية ولدورها في التمهيد لظهور نور شيبة وأمثاله في الأدب وغيره.

فـ"الحداثيون" الذين سفّهوا التجارب الإبداعية للإسلاميين (خاصة تلك المنتمية إلى "أدب السجون") لا يجب أن يغضبوا من أن يكون وارث "الحبس كذاب والحي يروّح" (للكاتب اليساري والسجين السياسي السابق فتحي بن الحاج يحي) هو "سجين حق عام"؛ لا علاقة له بالنضال ولا بـ"القضايا الكبرى" ولا بالأدب.

واقعيا، فإن منطق "تسييس" الأدب وتوظيفه في الصراع ضد الإسلاميين لا يمكن أن يستفيد منه أو يتحكم فيه إلا رموز الثقافة بالمعنى الذي استقر لها برعاية "القوى الحداثية": المغنّون، الكرانكة، الانستغرامازات، اليوتيوبرز، التيكتوكرز.. الخ. أما من يقفون على هامش النمط من الإسلاميين ومن أصحاب المشاريع المواطنية، فإن إدارتهم للخلاف مع النخب المهيمنة بمنطق "التوافق" وعجزهم عن التخلص من عقدة الدونية وبحثهم عن الاعتراف من داخل الأطر التقليدية (أي ممن يحتقرونهم في قرارة أنفسهم بحكم ارتباطهم بالثقافة المهيمنة التي كانوا هم أنفسهم "أضحيتها المقدسة") لم يكن ليسمح لهم إلا بتجارب إبداعية لا تخرج -في أغلبها الأعم- عن دائرة ما يكتبه المرء لأهل ملّته، أي تتوجه أساسا لقاعدة قرّاء تتكون من أولئك الذين يشتركون معه في الأيديولوجيا والذين سينتصرون له بصرف النظر عن القيمة "الفنية" لمنتوجه، أي سينتصرون له لأسباب لا علاقة لها في الكثير من الأحيان بالأدب. وهو ما يُمثل ردة فعل طبيعية ضد عملية الإقصاء النسقي التي تمارسها النخب "التقليدية" على كل "الأصوات" التي تشكك في مقدساتها "المُعلمنة" بناءً على معايير أيديولوجية لا علاقة لها هي الأخرى بالأدب.

twitter.com/adel_arabi21