يظهر الطبيب
الفلسطيني محمد حامد أبو موسى على الفضائيات حتى وقت قريب كالآلاف
من ذوي
الشهداء في غزة؛ ثابت الجنان، يراعي عمله بمهنية ورقي رغم جرحه الشديد باستشهاد
نجله الأصغر يوسف (7 سنوات).. اشتهر الأخير عربيا بسبب وصف والدته أثناء البحث عنه
في المستشفى قبل أن تعرف باستشهاده: "شعره كيرلي وأبيضاني وحلو"، خاصة
أن صوتها كان ممتلئا بالشجن وكادت تبكي في منتصف الكلمات.. عرفه الملايين من بين
أكثر من عشرة آلاف شهيد صغير السن عظيم المكانة لأنه استشهد في أيام العدوان
الغاشم الأولى، ولأسباب أخرى.
عرف الغرب الشهيد الصبي بسبب ترجمة مجموعة من الشباب العرب لقصة حياته
واستشهاده عبر تقنية "الذكاء الاصطناعي"، وهو ما يتمنى كل مخلص لأمته أن
يتوافر للآلاف من شهداء غزة وفلسطين صغارا وكبارا. فخلف كل شهيد اليوم وأمس ومنذ
بداية المعركة الممتدة مع العدو الصهيوني قصة تستحق أن تُروى وتُدرسَ وتخلد، ليبقى
النضال من أجل نصرة القضية الفلسطينية المركزية من قضايا الأمة العربية
والمستضعفين بعامة.
ستبقى ذكرى يوسف أبو موسى العطرة في دنيانا، كما سيبقى مصيره وجميع أمثاله
من الشهداء في حواصل طير أخضر في أعلى الجنان.. شاءت الأقدار أن يكون مصور شاب بارع بكاميرا ثابتة قريبا
من أبيه الطبيب في المستشفى لحظة لقائه بأمه؛ التي كانت ما تزال تبحث عن أصغر
أبنائها متمنية أن يكون حيّا. تتبعهما المصور وهما يسألان في قسم الطوارئ، اختصر
الفيديو وجزّأه لمشاهد لم تُخل بالمضمون، شملت هرولة الأب وخلفه زوجته في أنحاء
المستشفى، بينما في الواقع سبقهما قصف في نفس الليلة في المخيم القريب من منزل
الطفل. استشهد يوسف وعدد من صغار وكبار العائلة التي تقيم في بيوت متجاورة، كان
الصبي يعاني الجوع نتيجة للحصار اللا آدمي، خرجت أمه لتستعير من جيرانها ما يستر
جوعه فتم قصف الحي وهدم البيت عليه!
عايش الملايين الأم وهي تصرخ بلهجة مصرية -نظرا لأمها المنتمية لمحافظة
الشرقية-: "يارب نلاقيه.. يا رب"، يرد الأب في محاولة للتمسك بالأعصاب
المتوترة: "ما أنا قاعد بدور عليه".. يمضي الموكب الصغير حتى يجد شبابا
تطوع بنقل المصابين والشهداء وتوثيقهم بكاميرا أخرى، يرى الأب صورة ابنه فيها،
يكرر السؤال: "أين وجدته؟!"، يصمت الشاب حياء ووجعا، يعيد الأب السؤال
الملهوف، يجيبه زميل الشاب في أسى وتوتر مكتوم: "حملتُه للثلاجة"، يمسك
الأب برأسه، يشعر بالدوار، يكاد يسقط، يدرك أن عليه الانتقال للمشرحة في مبنى آخر
من المستشفى، يقف بعد دقائق قليلة عند درجات السلم القليلة المؤدية إليه، يتوقف
الركب البشري القليل العدد محتارا ومضطرا، تصرخ زوجته:
- اطلع، "يمكن مش هو"؟!
يدخل الأب المشرحة لثوانٍ، تتخلى قدما الأم عنها، تجلس في الخارج، ترن
الكلمات من فم شاهدة على ما يحدث، تقول باختصار ووجع متمنية أن تكون الإجابة
بالنفي: "أهو؟!"، يخرج الأب مهرولا، يجيء ضمير الغائب في المرة الثانية
مفجوعا: "هو"! تبدأ كلمات التعزية والتصبير في التتالي، يحسم المشهد
الأب المكلوم، يقول في استسلام المُجهد:
- دعوني جميعا.. الحمد لله على كل حال وحسبنا الله ونعم الوكيل.
يخرج إلى حيث تجلس زوجته، لا يجيب عن أسئلتها، تحاول امرأة مقربة منها تهدئتها
تصرخ:
- وجدتم يوسف.. رأيتم حبيبي.. خدوني ليه.
تحاول المرأة التراجع، تبكي الأم صارخة "يجب أن أراه"، فيما أخو
الشهيد الذي يكبره بعام أو أكثر قليلا يصرخ، تعود القافلة الصغرى للمشرحة، تميل
الأم لتقبيل ابنها الراحل، يحذر شقيقها الواقف وراءها -دون أن تراه- من أن يكشف الطبيب
الذي يعرض الجثمان وجه الشهيد بالكامل لئلا ترى الأم ما خلّفه القصف عليه، تُقبله
وتقول في أحد الفيديوهات بعدها إنها كانت حريصة على أن تكون "قوية" لئلا
ينهار زوجها، أرادت أن تبقى صلبة لئلا "يقع".. تحمد الله بعدها أن ابنها
لم يمزق القصف جثمانه لكي يبقى "جميلا" في مخيلتها طوال عمرها.. يتمنى
الأهل في فلسطين وغزة اليوم أن تنجو جثامين أحبابهم من التمزيق!
تمنى كل محب لأمته ولكفاح الأشقاء الفلسطينيين أن تأخذ هيئة أو مؤسسة عربية
منصفة على عاتقها ترجمة مثل هذا الفيديو للإنجليزية وغيره ليفهم الغرب معاناة
الفلسطينيين "أكثر"، وليعرفها الذين لا يعرفونها. ما يزال العالم يرى
أفلاما من "بوليود الهندية" و"هوليود الأمريكية" وغيرهما لتمجيد
الذين هم أقل شأنا بمراحل، ويبقى شهداؤنا دون أن يعرف العالم عنهم شيئا. لم يعرف
أحد معلومات تفصيلية عن الشهيد يوسف أبو موسى والآلاف من
الأطفال من أمثاله الذين
يُستشهدون منذ الساعة الأولى ومن الأسبوع الأول للمحرقة الهائلة على غزة وفلسطين،
من مثل يوسف والآلاف غيره، حتى جاءت مجموعة شباب في مؤسسة إعلامية فقدمت الصورة
شبه كاملة عنه وكأنها على لسانه، باللغة الإنجليزية.
لكَم يتمنى كل مناضل حر ألَّا تهدر قصص هؤلاء في الدنيا مثلما أُهدرت
دماؤهم، يوقنون -أيضا- أن الشهداء جميعا في خير حال لدى خالقهم، أحياء، ولكن سكان
الأرض حتى حين بحاجة لقصصهم كي يستمروا في رفع رؤوسهم مفتخرين بهم، غير متناسين ولا
متعودين على سفك دمائهم كما يتمنى العدو بإدامة العدوان، حتى ليتجاوز يومه المائة
على غزة وأطراف من فلسطين الحبيبة. دوامُ تذكّر مثل هذه القصص ووضعها أمام أعين
العرب والعالم يعين على تغيير واقع أليم، ليبقى أمام الأجيال أن أمة العرب تستحق
الحياة مهما أحاطت بها الأحزان!