كان المفكر عبد الوهاب المسيري رحمه الله، كثيرا ما يقول بأن الدفاع عن الحق
الفلسطيني واجب إنساني بإطلاق؛ أي إنه واجب لا تستنفده المعاني المتعلقة بكونه قضية حضارية بين شرق وغرب مثلا، أو قضية سياسية بين جنوب وشمال، بل هو في الجوهر واجب أخلاقي ملزم لضمير الإنسانية بأسرها. واجب عابر للثقافات والإثنيات وجميع الانتماءات قبل أن يكون أيضا، بالنسبة للعرب والمسلمين تحديدا، واجبا قوميا ودينيا. ومعنى ذلك أنه لو كان الكيان الصهيوني اغتصب بلادا في شرق القارة الأفريقية مثلا أو جنوب القارة الأمريكية (حيث من المعلوم أن أوغندا والأرجنتين كانتا من البلدان التي تداولت الحركة الصهيونية عند بداياتها في إمكان الاستحواذ عليها)، أو حتى في أوروبا الشرقية، لكان من واجب العرب والمسلمين مناهضة هذا الكيان اللقيط بالقدر ذاته الذي ينبغي عليهم أن يناهضوا به الكيان الإسرائيلي الاستيطاني المغتصب لفلسطين التاريخية.
وقد تأكد هذا المعنى الإنساني المطلق العابر لجميع الانتماءات والخصوصيات طيلة الأشهر الثلاثة الماضية بوجهين على الأقل؛ الوجه الأول، هو استفاقة الرأي العام في كثير من بلدان العالم، وحتى في بلدان أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية المنحازة تاريخيا ضد العروبة والإسلام، على الحقيقة الكريهة المقيتة للكيان الصهيوني، وخروج المظاهرات الشعبية في معظم المدن الكبرى، وتنظيم الاحتجاجات في كثير من الجامعات الغربية؛ مساندة للشعب الفلسطيني في
غزة ضد حرب العدوان الهمجي الذي أطلقته عليه آلة الدمار الإباديّة الإسرائيلية؛ بغرض محوه من الوجود بالتقتيل والتجويع والتهجير ونسف أبسط عوامل القابلية للعيش والبقاء في كامل القطاع.
أما الوجه الثاني، ولعله الأقوى من حيث القيمة القانونية والدلالة السياسية، فهو إقدام حكومة جنوب أفريقيا على رفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد دولة إسرائيل، بتهمة انتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة والمعاقبة عليها. ومع أن هذه قضية لا سابق لها ضد إسرائيل، ومع أنها قضية من العيار الثقيل ضد بنت الغرب المدللة المتحصنة في عيون أبويها (أوروبا وأمريكا) ببراءة الطفولة الأبدية، فإن جنوب أفريقيا قد زادت عليها، وأثقلت وأغلظت فيها، بأن طلبت الخميس من المحكمة أن تتخذ منذ الآن (علما أن نظر الدعوى سيستغرق أعواما)، تدابير احترازية لوقف الجرائم المستمرة في قطاع غزة، أي أن تصدر المحكمة الأمر لإسرائيل «بالوقف الفوري لجميع الهجمات العسكرية، وبالكف عن التقتيل وعما تصيب به الشعب الفلسطيني في غزة من خطر الأضرار البدنية والذهنية، وبالامتناع عن فرض ظروف معيشة يمكن أن تؤدي إلى التدمير المادي لسكان غزة».
ومن المفاجآت الصادمة لإسرائيل، أنها اكتشفت أن ما يقوله ساستها بالعبرية (من بذاءات عنصرية ومن تحريض على الإبادة ومن إعلان عن ضرورة القضاء على الحيوانات البشرية)، وأن ما كانت تظنه غير معلوم في الخارج، إنما هو مسجل موثق عند فريق المحامين من جنوب أفريقيا، وأنه يتضمن أدلة تدين إسرائيل الرسمية إدانة واضحة بارتكاب جريمة الإبادة ضد شعب غزة، بتصميم وسبق إصرار وإعلان صريح متكرر عن النيات والغايات.
هذا عن الجانب القانوني. أما الجانب السياسي، فإنه يتمثل في أن حكومة جنوب أفريقيا قد نزّلت الدعوى في سياق «معاملة إسرائيل للفلسطينيين طيلة خمسة وسبعين عاما من حكم الأبارتهايد، وطيلة ستة وخمسين عاما من احتلال الأراضي الفلسطينية، وستة عشر عاما من إحكام الحصار حول غزة». وبهذا أثبتت جنوب أفريقيا الحرة، المتحررة من الأوهام العنصرية والمساوية بين جميع مواطنيها، أن فلسطين هي قضية الضمير الأخلاقي العالمي: قضية الإنسانية بأسرها. وإزاء تصدّر جنوب أفريقيا، البعيدة جغرافيّا، للدفاع عن فلسطين، لم يسع بعض وسائل الإعلام الغربية الجادة، إلا أن تتساءل عن هذا الصمت العربي المطبق المخزي بشدة طوله، وعن تقاعس الدول العربية الغنية عن استخدام سلاح الطاقة أو سلاح الاستثمارات الضخمة في البلدان الغربية. كما تساءلت لوموند عن سبب كل هذا التأخر في إعلان موت «عصبة الأمم العربية»!
وبما أن «الضرب في الميت حرام» كما يقول المثل الشعبي الذي لا تعرفه لوموند، فإن أنبل تبرير يمكن التذرع به لمحاولة غسل هذا الخزي، هو أن «عصبة الأمم العربية» لم تتقاعس، بل كل ما في الأمر أنها أرادت بالامتناع عن الدفاع عن شعب فلسطين (قبل التذكّر في آخر لحظة وطلب المشاركة في رفع الدعوى)، أن تؤكد عالمية القضية الفلسطينية، وألّا تحرم الإنسانية، ممثلة في جنوب أفريقيا، من شرف الانتصار للحق.
(القدس العربي)