ليس الحزب الديمقراطي الأمريكي، الذي تطرقنا لأخطائه ونقائصه الأسبوع الماضي، أشد الأحزاب تمثيلا لأزمة
اليسار. بل لعل الورطة العميقة التي يتخبط فيها الحزب الاشتراكي الفرنسي منذ سنين، هي الشاهد الأقوى على المفارقة السافرة المتمثلة في انفضاض الناخبين من حول أحزاب اليسار، رغم توسع رقعة الفقر باكتساحه لمزيد من الشرائح الاجتماعية، ورغم استمرار اتساع الهوة بين الأثرياء والبقية في معظم المجتمعات المعاصرة.
وقد يكون الكتاب الذي أصدره الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا أولاند في أيلول/ سبتمبر الماضي، بعنوان «تحدي ممارسة الحكم: اليسار والسلطة من قضية دريفوس إلى اليوم»، أوضح وأوجز تحليل تاريخي لنشأة اليسار وفترات صعوده القليلة وحقب ركوده الطويلة. صحيح أن المرجع في تاريخ اليسار الفرنسي هو كتاب المؤرخ الصحفي الراحل جاك جوليار الصادر عام 2012 بعنوان «اليسارات الفرنسية: التاريخ، والسياسة والمخيال»، ولكنه كتاب ضخم موجه أساسا للمتخصصين، ورغم أن جوليار حرره بأسلوبه الصحفي الشيق، المتخفف من التعقيدات والأحابيل الأكاديمية، فإن قراءته تتطلب عزما وصبرا.
أما كتاب أولاند، فهو يتوجه للجمهور العام بأسلوب يتميز بتكثيف المعلومات الغزيرة والأفكار العميقة في عبارات صافية المعنى وفِقَر محكمة البناء.
وبفضل هذا الأسلوب التبليغي، استطاع أولاند خوض تجربة ناجحة في الأعوام الماضية في مجال تأليف الكتب الموجهة للنشء. وقد لاحظت عندما ذهبت في تشرين الثاني/ نوفمبر إلى حفل توقيع كتابه عن اليسار، في مكتبة «لاباج» في منطقة ساوث كنسينغتون اللندنية، التي تلقب بـ«الحي الفرنسي» لكثرة ما تعج به من الفرنسيين ومؤسساتهم ومحالّهم، أن كثيرا من المنتظرين في الطابور هم من تلاميذ المعهد الثانوي الفرنسي (المقابل للمكتبة)، الذين كانوا يحملون بين أيديهم أحد كتبه الموجهة إلى القراء من أعمارهم عن الجمهورية، أو الدولة، أو الاتحاد الأوروبي.
وقد طلبت دار برّين للنشر من أولاند تأليف الكتاب، بمناسبة مئوية المشاركة الأولى لليسار في الحكم في إطار ما سمي، عام 1924، بـ«تكتل اليسارات». واليسار المقصود هو اليسار الديمقراطي الذي كان متوزعا بين عدة اتجاهات، بعضها إصلاحي يروم تحقيق المبادئ الاشتراكية والمطالب العمالية بالنضال التدريجي «بدل الإطلال من أعلى أبراج اليوتوبيا»، وبعضها الآخر ثوري يريد القطيعة التامة مع
الرأسمالية التزاما بالأرثوذكسية الماركسية. وقد ظل الأمر كذلك منذ سبعينيات القرن 19 حتى 1905 عندما أنشئ «الفرع الفرنسي للعمّالية الدولية» الذي صار يعرف، منذ 1969، باسم الحزب الاشتراكي.
أما «الفرع الفرنسي للشيوعية الدولية» فقد أنشئ عام 1920، عقب قطيعة الشيوعيين مع قوى اليسار الديمقراطي في مؤتمر مدينة تور، وصار يعرف، منذ 1943، باسم الحزب الشيوعي.
وقد كان، على غرار معظم الأحزاب الشيوعية، مجرد ملحق من ملحقات الحزب الشيوعي السوفييتي يأتمر بأمره في كل كبيرة وصغيرة، حتى إنه أحجم طيلة أكثر من عام، عن الانضمام إلى المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي؛ لأن ستالين كان آنذاك مسالما لهتلر بمقتضى معاهدة عدم الاعتداء المبرمة في 23 آب/ أغسطس 1939. ولم ينخرط شيوعيو فرنسا في المقاومة إلا عندما صدر لهم الأمر من موسكو، بعد بدء الغزو النازي للاتحاد السوفييتي في 22 حزيران/ يونيو 1941.
ويرى أولاند أن السلطة مرآة تجتذب اليسار بقدر ما تخيفه، وأنه عاش تاريخه كله على وقع هذا الالتباس. ذلك أن الاشتراكيين أعلنوا منذ أواخر القرن 19 رفضهم لأي تقارب أو تعامل مع «الحكومات البرجوازية»، على أن اندلاع الحرب العظمى عام 1914، قد حملهم على الدخول في «الاتحاد المقدس» مع أحزاب اليمين، حيث قبلوا من منطلق الواجب الوطني بتولي جول غاد حقيبة وزارية. وقد كان غاد خصما شرسا للزعيم التاريخي جان جوريس الذي كان مناصرا للسلام، والذي اغتيل قبيل الحرب بأيام.
ولكن التجربة الوزارية كانت عابرة، خصوصا أن الاشتراكيين وقعوا، بعد مؤتمر عام 1920، تحت رحمة الشيوعيين وابتزازاتهم. وقد تجلى التباس موقف الاشتراكيين أول مرة عام 1924، حيث بدوا معرضين عن السعي إلى الحكم رافضين لأي توجه إصلاحي؛ لأنهم أيدوا حكومة الراديكاليين دون المشاركة فيها، فتركوهم يناطحون وحدهم «جدار المال»، أي ما يسمى بلغة عصرنا رأسمالية الاحتكارات والمضاربات. ولهذا لم تدم حكومتهم إلا عامين.
ولأن جدار المال لم يزد طيلة القرن إلا علوّا، فإن أحد أسباب عدم استطاعة أولاند الترشح لولاية ثانية عام 2017 أنه كان أعلن في حملته الانتخابية عام 2012 أنه مناهض لهذه الرأسمالية الطفيلية، التي لا يزال أخطبوطها يلتهم الاقتصاد ويتحكم في السياسة.
القدس العربي