ما زالت صورة كولن باول يتحدث عن أسلحة
الدمار الشامل في العراق في 2003 تقبّح وجه الإدارة الأمريكية، وحتى لا يحتكر
الإدارة "الجمهورية" المشهد، نرى اليوم صورة بلينكن وبايدن
(الديمقراطيان!!) يتحدثان عن رؤوس أربعين طفلا مقطوعة، في فوتوشوب تمت فبركته
بإتقان من منظمة "زاكا" وشركائها، لتبقى هذه الصورة تقبح وجه الإدارة
الأمريكية بعد عشرين عاما.
من وجهة نظري الشخصية، ومن وجهة نظر
التحليل النفسي أيضا، ليست هذه الصور المفبركة هي التي حددت موقف الإدارة
الأمريكية من الحرب على غزة، ولا أظن هذا الفيلم يرتقي حتى إلى مستوى دغدغة مشاعر
مسؤولين لا مشاعر عندهم أساسا، في بلد اعتبرت إداراته المتعاقبة منذ بداية القرن،
أن الحرب جزء أساسي من استراتيجية البقاء على رأس نظام عالمي سقطت أسنانه وشاب
شعره وفقد أهم أركان المناعة الذاتية، التي نصبته سيدا للعالم منذ سقوط الاتحاد
السوفييتي ومنظومة حلف وارسو.
وهو يرى في إسرائيل، ولو كان على رأسها
نتنياهو وبن غفير، آخر القواعد الاستيطانية الاستعمارية في شرقي المتوسط، وكما قال
أكثر من مسؤول صهيوني أمريكي: "عندما تخلينا عن نظام الأبارتايد في جنوب
إفريقيا تحّول هذا البلد إلى قيادة مواجهة نفوذنا في القارة الإفريقية
كلها"... قالها صهيوني فرنسي أيضا بطريقة أخرى ووقاحة مشابهة: "ما
تسمونه نزع الاستعمار أعاد الأقدام السوداء لفرنسا ومعهم ملايين من المهاجرين
المغاربة وجعلنا نستجدي السعودية وقطر بل حتى أذربيجان النفط والغاز، فرنسا حتى
عام 1960 كانت دولة منتجة للنفط"...
إنه الحنين المفتقد لإدارة التوحش الذي
يغذي التيارات الشعبوية على اختلافها، ويضع الناخب الأمريكي بعد أقل من عام من
جديد، أمام الاختيار بين الكوليرا والطاعون، أي الغياب الكامل للأفق..
أرسلنا الطبعة العربية لكتاب المفكر
والحقوقي الأمريكي جيمس بول إلى المطبعة قبل ثلاثة أيام من المشهد الدرامي لجلسة
مجلس الأمن في الثامن من كانون أول / ديسمبر 2023، وتابعت مباشرة نقاشات المجلس
الذي التئم لقيام السيد الأمين العام غوتيرس، لأول مرة منذ توليه منصبه، بمواجهة
مفتوحة مع السياسة الأمريكية، باستعمال مادة تسمح له بتقدير خطورة المذابح اليومية
بحق الفلسطينيين باعتبارها تشكل خطورة على السلم والأمن العالميين.
لم تستطع الثلاثية المعروفة باسم P3 (أي
الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا) أن تبقى على تماسكها، فرنسا أيدت
القرار، بريطانيا امتنعت عن التصويت، أما نائب المندوبة الأمريكية فرفع سلاح
الفيتو في وجه شبه إجماع عالمي. بعد هذا القرار، ووصول مئتي طائرة دعم بالمؤن
العسكرية وأسطول مقابل شاطئ غزة ومليارات الدولارات العاجلة وخبراء يشاركون غرفة
الحرب الإسرائيلية القرار، هل من المجحف أو التجني الحديث عن "الحرب
الإسرائيلية ـ الأمريكية على قطاع غزة"؟
كان جيمس يول قد رأى ذلك منذ الحرب
اليوغسلافية، ثم في 2003 حين حرر كتابا تُرجم إلى عدة لغات بما فيها العربية:
"الحرب والاحتلال في العراق"، ورصده عبر أهم
كتاب نقدي لمجلس الأمن في
كتاب: "في الثعالب والدجاج: الأوليغارشية والقوة العالمية في مجلس
الأمن" الذي صدر في 2017.
تأخرت الترجمة العربية للكتاب بسبب
جائحة كورونا وآثارها. ثم ذكّرتنا الحرب في أوكرانيا بأهمية الكتاب التي لا
تتناقص، كدراسة للصراع العالمي من أجل الهيمنة والثمن الباهظ الذي يدفعه الناس
العاديون.
حددنا تاريخ إصدار هذه الطبعة في 12
أكتوبر 2023. وبعد السابع من أكتوبر، قررنا تأجيل الطباعة من جديد. حيث كثفت حرب
الإبادة الإسرائيلية على غزة من جديد،
بتفاصيل غنية، الضعف البنيوي لمجلس الأمن وكشفت حجم الافتراءات التي تحمي سمعته
عادة. وكما كانت الحال في حرب العراق والعديد من الصراعات الأخرى، كان المجلس مجرد
دراما مسرحية تافهة، أمام جريمة إبادة جماعية موصوفة الأركان، سجيناً من قِبَل
أقوى أعضائه، عاجزا عن إدانة همجية نظام الأبارتايد الإسرائيلي، أو تأمين الحد
الأدنى مما يسميه ميثاق الأمم المتحدة "صون السلام والأمن الدوليين".
خص الكاتب الكبير الطبعة العربية
بمقدمة جديدة "ما وراء الثعالب والدجاج" مطولة ومزيدة كتبها خصيصا لقراء
العربية.
عند صدور كتاب جيمس أ. بول "في
الثعالب والدجاج: الأوليغارشية والقوة العالمية في مجلس الأمن"، طلبتُ منه
المشاركة في ندوة نظمها المعهد وحضر إلى جنيف للحديث عنه.
قلت في الندوة يومها، "مجلس الأمن
يحمل صفات السلطة التوتاليتارية (الشمولية) بكل تفاصيل تعريف الفيلسوفة حنه أرندت
للكلمة". فاعترض سفير دولة دائمة العضوية على ما قلت، فاستشهدت بجملة من
الكتاب يقول فيها جيمس بول: "يُنتج المجلس القانون الدولي، ويطبقه، ويحكم على
من يتهمه بخرق القانون الدولي. إنه هيئة تشريعية وتنفيذية وقضائية معاً ـ مزيج
خطير."، فتدخل بالقول: "وهل تريده أن يتقاسم حل مشكلات مصيرية مع ممثلي
دول صغيرة غير قادرة على دفع أجرة مقر بعثتها في نيويورك"! فقلت له: لا تحتاج
إجابتك إلى أي تعليق".
جاءت "الحرب على الإرهاب" لتطعن الحركة الحقوقية العالمية خنجرا في الصدر، توقف الحديث عن إصلاح الأمم المتحدة، وألغيت عمليا عشرية المنظمة الدولية "لإعلاء ثقافة اللا عنف والسلام لصالح أطفال العالم (2001-2011)"، وتوقفت الجهود الغنية لتطوير مفهوم "الأمن الإنساني"، وجرت عولمة حالة الطوارئ في "انتصار" للحرب والأمن القومي على الحقوق والعدالة والسلام، انتصار أشد من الهزائم عارا.
كنت شخصيا مع جيمس بول في العقد الأخير
من القرن الماضي في صلب تحرك مدني دولي لإصلاح الأمم المتحدة. وأذكر أنه في مناسبة
الذكرى الخمسين لولادة الأمم المتحدة، كنت يومئذ نائبا لرئيس الفدرالية الدولية
لحقوق الإنسان وكان جيمس بول مديرا لأول مكتب للفدرالية وراء الأطلسي، طلبتُ أن
يتضمن بيان الفدرالية حديثا واضحا حول العطب وهيمنة مجلس الأمن وضرورة الإصلاح
بداية من إلغاء ما يسمى بحق النقض "الفيتو".
وقف المدير التنفيذي، وهو غير منتخب،
وليس له حق التصويت، بشدة ضد اقتراحي، في حين انضم لي غير الفرنسيين في القيادة.
فنظر المدير التنفيذي إلى رئيس الفدرالية "الفرنسي" وقال له: سيخلق لنا
هذه الموضوع مشكلة كبيرة، لا تسألني بعدها لماذا أوقف الاتحاد الأوربي مساعداته
لنا؟ كان الموقف الفرنسي الرسمي ضد أي
إصلاح يمس مجلس الأمن. ففرنسا وبريطانيا مجتمعتين لا تمثلان أكثر من 2% من سكان
كوكبنا، ولهما 40% من القرار في مجلس الأمن.
نظر إليّ رئيس الفدرالية قائلا: يمكنك
أن تكتب ما تشاء حول إصلاح مجلس الأمن والأمم المتحدة لكن باسمك الشخصي. فضحكت
وبقيت في الاجتماع صامتا دون أية مشاركة حتى في الفقرات الأخرى للبيان.
جاءت "الحرب على الإرهاب"
لتطعن الحركة الحقوقية العالمية خنجرا في الصدر، توقف الحديث عن إصلاح الأمم
المتحدة، وألغيت عمليا عشرية المنظمة الدولية "لإعلاء ثقافة اللا عنف والسلام
لصالح أطفال العالم (2001-2011)"، وتوقفت الجهود الغنية لتطوير مفهوم
"الأمن الإنساني"، وجرت عولمة حالة الطوارئ في "انتصار" للحرب
والأمن القومي على الحقوق والعدالة والسلام، انتصار أشد من الهزائم عارا.
كان الحصار على الحركة كبيرا ووسائل
الضغط والإكراه ثقيلة، إلا أنه لم يتمكن من "ديناصورات" المقاومة
المدنية على الصعيد العالمي، ومن هؤلاء وفي مقدمتهم الأمريكي جيمس أ. بول الذي حرص
على إتمام ما بدأ، من تفكيك لسلطات مجلس الأمن التعسفية، ودكتاتوريته المعلنة على
رؤوس الأشهاد، أو كما كان يقول الفقيد، سيرجيو ديميلو، الدكتاتورية الوحيدة التي
تدافع عنها الديمقراطيات الغربية باعتبارهم لها "دكتاتورية الضرورة".
على منهج "ما قل ودل" وفي
قرابة المئة وخمسين صفحة، يستعرض جيمس أكثر من 75 عاما من تاريخ مجلس الأمن. ومن
أقدر منه على ذلك، وقد استقر أكثر من عشر سنوات في شقة مقابلة لمقر الأمم المتحدة،
باحثا ومناضلا وصوتا لأكثر من 32 منظمة
دولية (منها اللجنة العربية لحقوق الإنسان والمعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان)، في
أهم المعارك الحقوقية في الثلاثين عاما الأخيرة. ورغم الحصار الإعلامي الغربي،
تُرجمت أهم تقاريره وكتبه للغات عديدة. تحدث عن "سوريا بدون قناع"، عن
النتائج الكارثية للعقوبات، عن "الحرب والاحتلال في العراق"، وحرصنا على نقل أعماله إلى العربية.
في هذا الكتاب، الصادر عن المعهد
الإسكندنافي لحقوق الإنسان ومنشورات زمكان، يكشف جيمس بول خفايا الغرفة السوداء
لمجلس الأمن، بمعلومات موثقة يصعب الرد عليها من محامي المجلس. يعدد بشكل موثق
إخفاقاته الكبيرة وأثرها على السلم والأمن الدوليين. ويبرز في الوقت نفسه، أهمية
وجود هيئة دولية تعاونية لبناء العدالة والسلام والأمن على الصعيد العالمي.
لأهمية هذا العمل، وفي وضع دولي جعل من
الصعب على الضحايا شراء قوتهم اليومي، فكيف بهم في شراء كتاب، قرر المعهد
الإسكندنافي لحقوق الإنسان تزويد كل من يطلب نسخة إلكترونية مجانية وقررت منشورات
زمكان المسؤولة عن الطباعة الورقية بيع الكتاب بتكاليف الطباعة.