في مربع الأركان في
صراع
الأمة والذي كتبنا فيه عن ركني الزمان والمكان عند البشري وحمدان؛ نواصل الحديث عن
ركنين مكملين؛ ألا وهما التدبير والالتزام لدى ربيع والمسيري.
حينما كانت عين ربيع على
التدبير والتدبر بتضميناتهما الاستراتيجية؛ كان يحدق بمعنى الإرادة والإدارة،
الإرادة والعدة. إنه يبث في وعينا أنه لا إدارة بلا إرادة، ولا إرادة بلا إدارة.
إن إدارة بلا إرادة هي إدارة تجعل الواقع بوهنه وضعف وعجز الفاعلين فيه هو الأمر
المسيطر الذي يجعلها "إدارة الوهن". الإدارة تحت عجز الإرادة ليست إلا
إدارة تؤدي إلى معاني الخضوع والاستسلام.
ومن هنا كان فيض إدراكه
لإدارة الصراع العربي
الإسرائيلي؛ إدارة تقود إلى حروب السلام وسلام الحرب لتحقيق
الردع اللازم، وحقائق تحقيق الرهبة إلى حال المنعة، والممانعة إلى حال التحدي
والمقاومة. إن الاستسلام ليس مجرد رؤية خارجية تُفرض من غير قابليات تمكن لذلك
وتدبير -لا يأخذ إلا الاسم والرسم- وما هو كذلك، فإن هو إلا ضياع وتضييع، وليس
بالواقعية إنما وقوع وسقوط.
إنه تدبير المكان حينما
يرفض المعنى التسميمي الكامن في تعبير الشرق أوسطية ومشروعها الذي يفرض أجندة
وبرنامج عمل الخارج علينا، فيؤكد على عناصر أجندة نابعة تحمي الحقوق لا تضيعها،
تبقى على عناصر الممانعة لا تلتف حولها أو تسهم في إجهاضها، تتحرك صوب تعبئة
الإمكان والإمكانية فتترجمها إلى مُكنة ومكانة ودور. وحينما يعني تدبيره تدبير
الزمان فإنه سيتحرك صوب شواهد التاريخ وحركة النماذج التاريخية والتعرف على سماتها
وتحديد عناصر الفشل والنجاح فيها، بمقتضى الاعتبار والواجب والعبرة اللازمة تخطيطا
تدبيريا للمستقبل.. التدبير تأصيل لحركة مستقبلية، والزمان وذاكرته يقبعان في
تحرير النظر إلى الحال والمآل والاستقبال.
وتدبير الالتزام تشهده في
تصور دوره منسوبا لأمته، "أمتي والعالم"، إنه لا يفقد انتسابه إلى أمة،
ولا يفقد دوره أو وظيفته فيها.. أبرز حقائق كفاحية العالِم حينما ينتمي إلى أمة
ويجعل قضاياه قبلة (عالِم حمل همّ أمة في حقله وعلى سنان قلمه)، إنه كان بحق يؤصل
معنى "أمتي والعالم" هكذا كان التزام تدبيره، وتدبير التزامه.. تقع
كلماته الناهضة بالأمة الرافعة لفاعليتها، وهو فخور بانتسابه لها "أمتي أمة
القيم"، مسكونا بهمه بها، يحرك سياط أقلامه ليضرب كل أسباب وهن الأمة
وعجزها.. أمته حُملت بفعل العاجزين (إرادة وإدارة) فصاروا عبئا عليها وعلى
"تدبير العزة"، "اطلبوا حوائجكم بعزة الأنفس فإن الأمور تجرى
بمقادير".. رؤية نقرأها في "تأملات في الصراع العربي الإسرائيلي"،
"الحرب النفسية في الوطن العربي"، "الثقافة العربية بين الغزو
الصهيوني وإدارة التكامل القومي"، "اتفاقات كامب ديفيد: قصة الحوار بين
الثعلب والذئب". وغيرها. ومن أهم كتبه التي نشير إليها في هذا المقام "تأملات
في الصراع العربي الإسرائيلي" الذي أكد فيه رغم أنه قد وصف ذلك بالتأملات؛ على
طبيعة الصراع المصيرية والحضارية والوجودية؛ وإدارة الصراع بما تتطلبه من أدوات
ومستلزمات في الإدراك وفي الحركة.
وتأتي ضمن رباعية البوتقة
الحضارية؛ عين المسيري الكاشفة الناقدة الفارقة، التي تركز أكثر مما تركز على
اللحظات النادرة، لأن منها أن تكون كاشفة فارقة، وهو يعلمنا على نحو فارق الفرق
بين الالتزام والتحيز بكل مضامينه السلبية التعصبية أو العنصرية أو اللا منهجية؛
التزامه هو في "فقه التحيز"، التزامه هو في معاني الهوية وما يترتب
عليها من منهج نظر وموضوعات وقضايا يجب أن تكون محل همّ الباحث واهتمامه.
ومن هنا أوضح لنا كيف يكون
الالتزام بالمكان والزمان والتدبير جملة، الالتزام حركة واعية بالفكر، واعية إلى
سعي على شاكلة التزام الفكر مقدمة لالتزام السعي، معرفة العدو ومنزلته مقدمة
لمنازلته ونزاله بكل سلاح ممكن، فالجهل بالعدو -ومن الجهل به المبالغة في قدره أو
فعله، أو التهوين من شأنه- هو أول مكنات العدو في تحقيق انتصار زائف علينا، وهو
أول الوهن الحادث في التصور النافي لعناصر الالتزام.
الالتزام لدى المسيري ليس
رؤية أيدلوجية أو عمل تسييس، ولكنه التزام هوية يجعل أمته القبلة ومنعتها البوصلة..
"هل يمكن التعرف على إسرائيل..؟" هو ما دعاه أن يؤلف عملا موسوعيا عن
"الصهيونية، اليهود، اليهودية"، ليؤكد أن من الالتزام الوعي والمعرفة،
فالتزام المعرفة من أولى مقدمات معرفة الالتزام.
وهو بالتزامه بروافع الأمة يتحرك صوب ضمائر العزة فيها
"الانتفاضة" الأولى والثانية، ويؤكد في كل ما يكتب "أيها العاجزون،
بعجزكم يتقوى عدوكم، والعدو لا يستعصي على المنازلة ولا يستحيل هزيمته، فجزء من
معرفة الذات والتزام هويتها يتحرك لفهم نقائضها أو من يعمل على نقضها"..
"اعرف عدوك" شعار الالتزام الواعي لدى المسيري، ولكنه ليس شعارا سياسيا
أو تعبويا يستخدمه السياسيون لتعبئة البشر خلفهم من دون فعل يترتب عليها. في كل
مرة تحدث المواجهة قد نصاب بالخسارة، وربما نقول إن من أسباب ذلك أننا لم نعرف
عدونا جيدا، لأننا في كل مرة رفعناه شعارا سياسيا تعبويا لا شعارا معرفيا ملتزما
يوصي بالعمق، فالتعرف على منزلة العدو جزء لا يتجزأ من التعرف على أصول منازلة العدو.
يؤدي المسيري هذه الرؤية في الصهيونية والعنف وموسوعته،
بالإضافة إلى تذكيره بالقدرة على المواجهة ("الانتفاضة الفلسطينية وأزمة الصهيونية"،
من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية"). هذه هي بوتقة الرؤية الحضارية في
رباعية مثلها عبقري المكان (حمدان) وحكيم الزمان (البشرى)، والعالم الكفاحي المنتمي
(ربيع)، والملتزم معرفيا في عقلية فارقة كاشفة (المسيري).
هذا هو حوار المحاكاة كما نقدمه
في الرؤية الحضارية لصراع الأمة مع الكيان الفلسطيني، بحيث مثل مكان الصراع جمال
حمدان برؤيته، ويمثل زمان الصراع طارق البشري بحكمته، ويمثل تدبير الصراع حامد
ربيع بانتمائه، ويمثل الوعي بالصراع التزاما ورسالة عبد الوهاب المسيري بالتزامه
وعمقه.
هذا هو حوار المحاكاة كما نقدمه في الرؤية الحضارية لصراع الأمة مع الكيان الفلسطيني، بحيث مثل مكان الصراع جمال حمدان برؤيته، ويمثل زمان الصراع طارق البشري بحكمته، ويمثل تدبير الصراع حامد ربيع بانتمائه، ويمثل الوعي بالصراع التزاما ورسالة عبد الوهاب المسيري بالتزامه وعمقه
هكذا يمكننا أن نتصور
هؤلاء قد التقوا من غير لقاء وتلاقوا من غير صحبة، وكان موضوع حديثهم وحوارهم
وخطابهم صراع الأمة مع الكيان الصهيوني، كل مثّل بتخصصه لبنة في الوعي والسعي بهذا
الصراع مصيريته وحضاريته فتكوّن هذا النموذج الحواري للمحاكاة؛ ومع
تلك الأشباه والنظائر موضع الإجماع المكاني والزماني والتدبيري والالتزامي كانت
هناك من الفروق التابعة من التخصص والاهتمام كلها تتكافل وتتكامل لتؤدي رؤية عميقة
وأصيلة "رؤية حضارية للصراع".
هكذا هتف حمدان برؤيته أنا
المكان؛ المكان الذي يمثل عقدة استراتيجية؛ المكان الذي يشكل موقعا يعبر عن
المكانة لا مجرد الموضع الجغرافي الذي يشار إليه على الخريطة؛ وينادي البشري أنا
الزمان والذاكرة التاريخية ضمن الوعي التاريخي والحضاري خاصة فيما يتعلق بتاريخ
صراع الأمة مع الكيان الصهيوني؛ الذي يجعل من القدس مركزا ومحكّا مهما لذلك الصراع؛
وربيع الذي يؤكد على التدبير والتدبر الاستراتيجيين وإدارة الصراع المفعم بمعنى
الإرادة في القرار والاختيار والمسار والمصير؛ والمسيري يبني من كل طريق معنى
الالتزام والمسئولية حيال هذا الصراع الذي يجب أن تقوم عليه الأمة وتنتفض
كالانتفاضة الفلسطينية في مواجهة الكيان الصهيوني العنصري والفاشي.
كما كان الإجماع من مربع
الأركان على مصيرية الصراع وطابعه الحضاري؛ كان الإجماع على مصير هذا الصراع
ومستقبله. إن المقولة التنبؤية التي مفادها نهاية إسرائيل شكلت إجماعا من حمدان
والبشري وربيع والمسيري.. حمدان أكد على أن الاستعمار الاستيطاني إلى زوال مشيرا
الى نهاية إسرائيل كآخر كيان احتلالي استيطاني؛ والبشري الذي أكد على مركزية القدس
في هذا الصراع بل جعلها وعاء لفلسطين والأمة كان يؤكد على تحرير القدس كاملة والذي
لن يكون ممكنا إلا بإنهاء الكيان الصهيوني الغاصب؛ إنها نظرته ونظريته في أيام
العرب التي ارتبطت بذاكرة
المقاومة؛ ورؤيته الراسخة حول الوعاء المقدسي؛ أما ربيع فقد
تنبأ بالانتفاضة الفلسطينية ومقاومة إسرائيل من الداخل؛ وسيكون ذلك بداية النهاية
للكيان الصهيوني المصطنع؛ إن المحصلة التي تتعلق بنهاية هذا الكيان سكنت رؤيته
الأساسية حول مصيرية الصراع وحضاريته وتعلقه بالوجود؛ أما بالنسبة للمسيري فإن معرفة
العدو والوعي به أولى خطوات مواجهته (وعى العدو وسعى المواجهة)؛ ومن ثم لم يتردد
في الحديث عن "نهاية إسرائيل".
إن موضوع نهاية إسرائيل متجذر في الوجدان الصهيوني؛
فحتى قبل إنشاء الدولة أدرك كثير من الصهاينة أن المشروع الصهيوني مشروع مستحيل
وأن الحلم الصهيوني سيتحول إلى كابوس؛ إن موضوع النهاية لا يحب أحد في إسرائيل
مناقشته، ولكنه مع هذا يُطل برأسه في الأزمات؛ بل قام المسيري بتحديد علامات نهاية
إسرائيل، ومن هنا شكلت فكرة النهاية إجماعا مهما في رؤية هذا الصراع؛ طبيعة ومسارا
ومصيرا ومآلا.
twitter.com/Saif_abdelfatah