لم يعد سرا أن إسرائيل بأذرعها الكثيرة والمتنوعة عبر العالم تسخِّر جهدا كبيرا لإقناع
مصر بقبول اللاجئين من سكان
غزة «مؤقتا».
الفكرة سابقة للحرب الحالية، لكنها بُعثت من جديد. يوميا يتسع نطاق تناولها وتصبح أكثر قابلية للنظر فيها إلى أن تنضج تماما.
صحيفة «الفاينانشال تايمز» أوردت الأسبوع قبل الماضي أن بنيامين نتنياهو طرح فكرة توطين سكان غزة في مصر على ضيوفه الأوروبيين، فمنهم من تأمَّلها مثل قادة جمهورية التشيك والنمسا، وبعضهم اعتبرها غير واقعية مثل قادة بريطانيا وفرنسا وألمانيا بحجة أن مصر سترفضها.
جميع الأفكار الشيطانية تبدأ بالونات اختبار.. غريبة محتشمة يلفها خليط من التمنع والاستغراب والرفض، ثم تأخذ في الانتشار لتنضج وتنتهي أمرا واقعا.
فكرة التوطين حلم إسرائيلي، كل حباكتها أمريكية وتنفيذها غربي بمباركة عربية.
من البديهي أن يرفض قادة مصر الفكرة في تصريحاتهم العلنية. هذا أقل الإيمان منهم. لكن مع المسؤولين العرب دعك من التصريحات العلنية والبطولات الإعلامية وابحث عمَّا لا يقال. مصر اليوم في حالة لا تُحسد عليها على كل الأصعدة، وحالها البائس لا يؤهلها لرفض الضغوط الغربية أو الصمود أمام الإغراءات.
طُرحت الفكرة (وستُطرح) في شكل أن التوطين سيكون مؤقتا وإلى مساحة فارغة مهملة من أطراف شبه جزيرة سيناء.
المقابل سيكون حزما من المساعدات المالية مصر في أشد الحاجة إليها، ووعود بدعم سياسي واستراتيجي في القضايا التي تؤلم مصر مثل سد النهضة الأثيوبي.
مشكلة مصر أن الضغوط والإغراءات لن تأتيها فقط من إسرائيل وأمريكا.
هناك الدور العربي ممثلا في عواصم إقليمية حلمها هو حلم إسحاق رابين أن يستيقظ يوما ويجد غزة قد ابتلعها البحر.
الطرف العربي في هذه المعادلة يملك المال وأثبت براعته في الدفاع عن الأفكار الأمريكية وترسيخها.
القناعة اليوم في بعض العواصم العربية أن حماس أساس المشكلة، وأن انتهاء الحرب الحالية دون القضاء عليها هزيمة لإسرائيل وحلفائها.
الدبلوماسي الأمريكي السابق دينس روس، الذي عمل طويلا في الشرق الأوسط، كتب في صحيفة «نيويورك تايمز» يوم 27 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي محرِّضا على رفض وقف إطلاق النار لأنه، في رأيه، سيُقوِّي حماس. يحتمي روس وراء الموقف العربي، فيقول: كل القادة العرب الذين أعرفهم منذ زمن طويل وتحدّثت إليهم شددوا على ضرورة تدمير حماس. قالوا لي إن انتهاء الحرب ببقاء حماس سيكون نصرا لها ولأيديولوجيتها، ومحفِّزا كبيرا لإيران.
مصر تملك هامش اقتراح شروط وتغيير بعض التفاصيل، لكنها لا تملك قوة أو ترف الرفض، بسبب هشاشتها الاقتصادية وتراجع دورها الاستراتيجي وانسحاب مركز النفوذ من القاهرة الى عواصم عربية في منطقة الخليج.
في كل الأحوال، الموضوع سار على قدم وساق. ومصر اليوم في حاجة إلى العرب الآخرين لنجدتها من نفسها ومن الفخ الذي يُنصب لها بموضوع التوطين. دعمهم سيعوّضها عن الدعم الغربي ويحميها من أثمانه.
يريدون غزةً على المقاس: من المؤكد أن قطاع غزة لن يعود بعد انتهاء الحرب الحالية كما كان قبل السابع من الشهر الماضي.
غير رائحة الموت وبقاياه ومن الخراب الإنساني، وغير الخراب المادي، المقصود بالكلام هنا المصير السياسي الإداري الذي يُبيَّت للقطاع. مَن سيحكمه وكيف وإلى أيّ مدى زمني.
أيًّا كان المشهد المقبل سيبدو للوهلة الأولى نصرا مظفرا لإسرائيل. لكن مخطئ من يُسلّم بذلك. اجتثاث حماس، على فرض أنه حدث، لن يكون النهاية بل بداية شيء جديد. هناك حروب لا نصر فيها، التي تشنها إسرائيل حاليا على سكان غزة واحدة منها.
أسباب كثيرة تمنع الانتصارات، منها أن القتال ليس بين جيشين تقليديَين يستسلم المنهزم للمنتصر ويوقّع اتفاقية هزيمته. ومنها أن النصر نسبي، فقد تحسم اليوم معركة بقوة ضارية، فقط لتفتح على نفسك أفق معارك أخرى في المستقبل.
أما أهم الأسباب فهو أن الحرب لا تدور من أجل حدود جغرافية أو آبار نفط أو معبر مائي تنتهي بالسيطرة عليه أو فقدانه. قد تسيطر على الأرض والجو والبحر وتغلق المعابر وتقطع الكهرباء والماء والشمس والهواء، لكن هل تضمن أنك ستتمكن من السيطرة على القلوب.
الأمر كله مرتبط بسُنَّة الحياة وغريزة البقاء. إنها معركة وجود.
انظروا إلى احتلال أمريكا لأفغانستان طيلة عشرين سنة ثم فرارها تاركة أفغانستان للعدو ذاته الذي جاءت بسببه وجنّدت العالم كله لدعمها في قتاله. لو لم يهرب الأمريكيون كانت طالبان ومعها ملايين الأفغان سيقاتلونها 400 سنة أخرى.
انظروا إلى نكسة فرنسا في الجزائر بعد 132 سنة من احتلال استيطاني غاشم.. إلى أمريكا في فيتنام. إلى نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وبريطانيا في شبه القارة الهندية.
بعد مائة سنة، أقل أو أكثر، ستُضاف غزة إلى القائمة ويتحدّث المؤرخون عن غرق إسرائيل في مستنقع غزة.
الوضع الجديد الذي يُعدّه الإسرائيليون والأمريكيون بالتواطؤ مع قادة عرب لغزة سيكون بداية مرحلة جديدة من صيرورة القطاع وعلاقته بالاحتلال.
واهم من يتنفس الصعداء لنهاية حماس. ومخطئ مَن ينسى أن الإرهاب الوحشي الذي تمارسه إسرائيل على سكان القطاع اليوم هو والأرضية التي سيبني عليها الجيل المقبل من السكان علاقتهم الخاصة بمن قتل الآلاف من آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وسوَّى بيوتهم ومدارسهم ومستشفياتهم بالأرض في أقل من شهر.
ستقتل قيادات حماس وما استطعت من أفرادها، وتهدم البنايات، لكن ماذا عن حماس الفكرة؟ ماذا عن الجيل الذي ستصنعه الحرب الحالية، مَن سيستطيع إطفاء نار الانتقام بداخله؟
الإبادة الإسرائيلية لسكان القطاع اليوم هي الأسس التي سيصقل بها السكان علاقتهم مع هذا العدو الذي تفوّق في جرائمه على جرائم النازيين. واهم من الإسرائيليين مَن ينتظر من هذه العلاقة أن تكون سوّية لا أحقاد فيها ولا رغبة جامحة فيها للانتقام. الأفضل لهم أن يستعدوا للقادم.
(القدس العربي)