الله أكبر! من كان يتصوّر أنّ المقاومة الفلسطينية التي كانت تكتفي بالدفاع عن النفس وإطلاق الصواريخ وانتظار العدوّ في
غزة، تمرّ اليوم إلى الهجوم على مستوطنات العدوِّ برّا وبحرا وجوا، وتنقل المعركة إلى مستوطناته ومواقعه العسكرية، وتُفاجئه بالطائرات الشراعية وتُطلق 5 آلاف صاروخ في بضع ساعات، وتقتل عشرات الجنود وتأسر عشرات آخرين وتستولي على عدة مستوطنات وتتّخذ سكانها رهائن وتغنم دبابات وعربات للعدوّ، ولسان حالها يردّد: نغزوهم ولا يغزوننا!
خلال هذه الملحمة التي سيسطّر التاريخُ حروفها بماء الذهب، رأينا مئات المستوطنين وهم يفرّون كالجرذان المذعورة في كلّ الاتجاهات وكيف اختبأ بعضُهم في حاويات القمامة، وشاهدنا الجنودَ المتعجرفين الذين طالما ساموا المدنيين الفلسطينيين سوء العذاب يخفضون هذه المرة رؤوسهم ذلا وهوانا بعد أسْرهم وسحلِ بعضهم، في حين ساد الارتباك المستوى السياسي للعدوّ من هول الصدمة فلا يدري كيف يردّ سوى بشنّ المزيد من الغارات الجوية الوحشية على القطاع والفتكِ بالآمنين كما تعوّد أن يفعل في كلّ مرة.
إنها مفاجأة مذهلة صدمت الاحتلال وأنهت أسطورة تفوّق مخابراته التي فشلت في توقّع هذا الهجوم الكاسح، مفاجأة تفوق نظيرتها التي حدثت قبل 50 سنة، آنذاك تمكّن الجيش المصري من تحطيم أسطورة خط بارليف ومفاجأة الاحتلال وإيقاع خسائر كبيرة به، أما اليوم وقد انتهى عهد الحروب العربية الصهيونية التقليدية، وتخلت الجيوش العربية عن فلسطين، وسار عددٌ من الدول في ركب التطبيع المخزي من دون أدنى خجل أو حياء، وباعت فلسطين والقدس والمسجد الأقصى المبارك، فقد أخذ الفلسطينيون بأنفسهم زمام المبادرة، وتحرّكوا لإنقاذ الأقصى قبل فوات الأوان، وفاجؤوا العدوّ هذه المرة وأثخنوا فيه قتلا وجرحا وأسْرا…
لقد سطّرت المقاومة الفلسطينية صفحة عزّ جديدة في تاريخ الأمة، صفحة تذكرنا بحطّين، وانتصار الثورة الجزائرية، وانتصار 6 أكتوبر 1973 وإن أفسده السادات باتفاق كامب ديفيد وإخراجِ مصر من الصراع وإضعاف القضية الفلسطينية وإدخالِها في نفق من التسويات العبثية الاستسلامية التي اغتنمها العدوُّ للاستيلاء على المزيد من الأرض وتهويد القدس وتقسيم الأقصى زمانيا ومكانيا تمهيدا لهدمه وإقامة الهيكل المزعوم مكانه.. اليوم آن لكلّ هذا الهوان أن يتوقف، وللسلام العبثي الذليل أن ينتهي، ويترك مكانه للتضحيات الجسيمة وبلا حسابات، فهي وحدها السبيل لتحرير الأرض وطرد المحتلّ ذليلا مهانا كما طُردت فرنسا من الجزائر وأمريكا من فيتنام وأفغانستان… والقائمة طويلة.
اليوم تبيّن للمرجفين أنّ حركة
حماس كانت على حقّ حينما أحجمت عن التصدّي للاحتلال في جولاته القتالية المحدودة على حركة الجهاد في غزة؛ فحماس كانت تُعِدّ للاحتلال ما استطاعت من قوة لمثل هذا اليوم المشهود وتحقيق نصر مبين لا شكّ فيه، وليس للقيام بردود أفعال متسرّعة وغير مدروسة.. وهاهو العدوُّ نفسه يعترف بأنّ حماسا قد تمكّنت من تنويمه ووجّهت ضربة قاصمة لمخابراته التي فشلت فشلا ذريعا في رصد أيّ حركةٍ لعناصر المقاومة قبل بدء عملية “طوفان الأقصى”.
ما رأيناه اليوم من تطوّر للقدرات القتالية لحماس وباقي فصائل المقاومة المظفّرة بغزّة يؤكّد مدى عبقرية قيادتها وحكمتها ورزانتها وحُسن إعدادها لمعركة التحرير التي قد تستمرّ طويلا، بالنظر إلى قوة العدوّ المدعوم أمريكيًّا وغربيًّا وحتى عربيًّا بعد أن أصبحت دولٌ عربية عديدة تبحث عن مصالحها الخاصة على حساب القضية المركزية الأولى للعرب والمسلمين، وتطبِّع مع الاحتلال وتمنحه ضمنيّا الضوءَ الأخضر لتصعيد إجرامه وعنصريته ضد الفلسطينيين وانتهاكاته اليومية للأقصى المبارك.
طوبى لكم أيها الأبطالُ الأفذاذ، هذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمها هذا العدوُّ العنصري الفاشي، وليس لغة السلام الذليل والتسابق المحموم على الهرولة والخيانة واتفاقات أبراهام المُخزية.. مهما تكن نتائج المعركة الآن، فقد أدّيتم ما عليكم وأكثر، وفعلتم أكثر مما فعلته الجيوشُ العربية مجتمعة في حروبها السابقة مع الاحتلال، ورفعتهم رؤوس العرب والمسلمين عاليا وأثلجتم صدورهم، وأكّدتم أن المقاومة لم تنته وشعبَ الجبّارين لم يهُن ولم يستسلم.. أنتم عنوانُ عزّ الأمة وفخرها وكرامتها، ولا ريب أنّ ملايين المسلمين في شتى أصقاع الأرض يتمنّون لو كانوا مكانكم أو معكم في هذه المعركة البطولية الفذة، ولكنهم يقفون معكم بقلوبكم ويدعون لكم بالثبات والنصر.. ونأمل أن ينتفض الفلسطينيون في الضفة الغربية وأراضي 1948 أيضا ويُشعلوها تحت أقدام الاحتلال. فقط ننصحكم بعدم الالتفات إلى وساطات العرب لإيقاف القتال مجَّانا كما تعوَّدوا في الحروب السابقة.. لا تتوقفوا حتى تحرِّروا الأسرى على الأقل وتوقفوا قطعان المستوطنين عن تدنيس الأقصى واستباحته في كل وقت بلا حسيب أو رقيب، وذلك أضعف الإيمان.
(الشروق الجزائرية)