ثمة دلالة لتوقيت الملحمة التاريخية التي تسطّرها المقاومة والشعب الفلسطيني هذه الأيّام.
لا بدّ أنّ من خطّطوا لهذه الملحمة، استلهموا الملحمة التاريخية التي سطّرها الجيش المصري قبل خمسين عاماً، ويحتفل الشعب المصري بذكراها هذه الأيّام.
في السادس من أكتوبر العام 1973، انعقدت الإرادة على خلع سترات الهزيمة والخذلان فكان العبور العظيم الذي تمكّنت من خلاله القوات المسلحة المصرية، من اجتياز قناة السويس وتحطيم «خط بارليف» الدفاعي الحصين، الذي يتكوّن من ثلاثة خطوط متتابعة.
تقدّم الجيش المصري على جبهة سيناء بعد أن حقّق المفاجأة المبدعة نحو سيناء المحتلة، وكان بإمكانه أن يستمرّ في التقدم نحو إلحاق هزيمة شاملة بالكيان الصهيوني، الذي أخذ يترنّح تحت ضربات الجيش المصري، والجيش السوري في اتجاه هضبة الجولان بمشاركة من قطاعات عسكرية شاركت فيها جيوش عربية.
كان التوقُّف اضطرارياً، والبعض يقول إنه كان مرسوماً مسبقاً لكن النتيجة واحدة، فلقد تدخّلت الولايات المتحدة، وأنشأت جسراً جوياً ووقفت بكلّ قوة خلف إسرائيل، ما أتاح لشارون أن يحقّق اختراقاً عبر ما يُعرف بـ «ثغرة الدفرسوار» وكان ما مكان.
فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة وعلى رأسها كتائب الشهيد عز الدين القسّام، كرّرت التجربة الملحمية، في ظروف مختلفة وفي ظلّ غياب توازن القوّة مع احتلالٍ يمتلك إمكانيات هائلة عسكرية واستخبارية ويحظى بدعم الدول الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة.
نجحت القوات المقاتلة في اقتحام واجتياز كلّ العوائق، وأجهزة المراقبة التي وضعتها إسرائيل، وتمكّنت من تحقيق ما يبدو أنّه مستحيل.
ساعات قليلة كانت «قوات النخبة» في الفصائل المسلّحة، قد سيطرت على عدد من المستوطنات في «غلاف غزّة»، وعلى قاعدة قيادة القوات الوسطى في الجيش، وعلى مئات الآليات والدبّابات والمراكز العسكرية والشرطية.
اشتبكت «قوات النخبة» مع من تواجد من جيش الاحتلال ومستوطنيه المسلّحين، وتمكّنت من أسر أكثر من مئة، حسب اعتراف إسرائيل، ومن قتل أكثر من ثلاثمئة وخمسين جندياً وضابطاً ومستوطناً، وسيطرت على رهائن من المستوطنين.
أسقطت المبادرة والشجاعة والمخطّط لها جيداً الردع الإسرائيلي، والمنظومة الاستخبارية، والسياسية ومرّغت في الأرض هيبة الجيش الإسرائيلي.
زلزال أصاب إسرائيل، وأطاح بادعاءات الجيش الذي لا يُقهر، وحطّم ما تبقّى من سيطرة الردع، ووضع حدّاً للتفوّق الإسرائيلي الذي لطالما تفاخرت به قيادات الاحتلال.
لم تعد بضاعة «الدولة الشركة» تنفع أحداً ممّن أرادوا شراءها، فـ»الدولة الشركة»، التي تفشل في حماية ذاتها وأمنها هي غير مؤهّلة لتصدير الحماية والدعم اللوجستي الذي توهّم بعض الأنظمة أنّه سيكون طريقها ووسائلها لحماية استقرارها، ودرءِ المخاطر عنها.
لم تتوفّر لدى الفصائل الفلسطينية المسلّحة التي صنعت هذه الملحمة، التي أوجعت كلّ مراكز القرار في إسرائيل، طائرات «اف 15» أو «اف 16»، ولا الدبّابات، ولا الأسلحة النووية، ولم تتوفّر لها الوسائل الدفاعية التي تملكها إسرائيل.
لم يقف خلف فصائل المقاومة التي صنعت الملحمة التي كشفت عورات إسرائيل، أيّ قوّة كبرى أو صغرى، كالتي تقف خلف إسرائيل التي تحظى بدعم هائل وحماية أميركية، وحرص على تفوّقها، ما حضر لدى الفصائل الإيمان بعدالة الحقوق، وإرادة فولاذية، وشعب صامد يتمتّع بكلّ الحيوية التي تجعل منه شعباً متميّزاً، وحضر الإصرار على خوض المجابهة والتحدّي لتحقيق أهداف الشعب التحرّرية، وحضرت لدى الفصائل أدوات بسيطة فاعليتها، من صنع العقل الفلسطيني المبدع.
وحضر، أيضاً، ضعف المنظومة الإسرائيلية، التي تقف على أرضٍ رخوة تخشى كلّ الوقت من الخطر الوجودي، الذي يشير إلى شركة متعدّدة الجنسيات لا تربطها إلّا النفعية والوهم، وتقديم الخدمة لأسيادها المستعمرين.
كان لا بدّ من التحضير الجيّد لوضع خطّة متماسكة وناجحة، تحقّق الأهداف فكان لا بدّ من تحمُّل أسئلة التشكيك والانتقاد، من قبل بعض الكتّاب والنشطاء الذين تمترسوا خلف مواقف مسبقة وقراءات سطحية أوقعتهم في فخّ الجهل.
لم يكن استنكاف «
حماس» عن مشاركة «الجهاد الإسلامي» في الجولات الثلاث التي خاضتها في مواجهة العدوان الإسرائيلي المتكرّر، حينها ارتفع صوت المشكّكين بصدقية المقاومة، وتصاعدت الانتقادات لـ «حماس» المسؤولة، عن تدهور الأوضاع المعيشية في القطاع، والتي تبحث عن تفاهمات حول هدنة طويلة تؤمّن لها المال القَطَري، وتقبل بمعادلة «الهدوء مقابل التسهيلات»، وتمتدّ الأسئلة المشكّكة لتشمل «
حزب الله»، الذي يُتّهم بأنه يفقد هويته الوطنية والقومية لصالح الأجندة الطائفية والإيرانية.
كنت كلّ الوقت أتساءل عن سبب امتلاك فصائل المقاومة ومن بينها بل في مقدّمتها «حماس» كلّ هذه الأسلحة والصواريخ، والأنفاق والمعدّات الحربيّة، وإذا ما كان الانقسام الداخلي وتثبيت وحماية سلطة «حماس» في غزة يستدعي كلّ هذه الترسانة.
والسؤال ذاته يمتد ليشمل «حزب الله» الذي يمتلك ترسانة تقدّرها إسرائيل بمئة وخمسين ألف صاروخ، ومئات الطائرات المسيّرة، وعشرات آلاف المقاتلين.
في الحالتين تصل إلى جوابٍ منطقي، فالسيطرة من قبل «حماس» على القطاع و»حزب الله» إذا أراد السيطرة على لبنان، لا تحتاج كلّ هذه التجهيزات فلا هذه ولا تلك مهدّدة، وهي لا تحتاج سوى إلى البنادق الآلية، وآلاف ليست كثيرة من المسلّحين حتّى تؤمّن نفسها.
جاءت اللحظة لكي تجيب عن كل هذه الأسئلة، ولتؤكّد أنّ البعد الوطني والقومي في الحالتين هو الذي يحكم المنظومتين، ومن دون تجاهل الدعم الذي تقدّمه إيران، أو التلاقي عند الملفّ الفلسطيني، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
تستمر العمليّات لليوم الثاني في المستوطنات، وتفشل إسرائيل في استعادة الهدوء والاستقرار لها بل إن الفصائل في اليوم الثاني، تنجح في تأمين الإمداد والسلاح والمقاتلين، لبؤر الاشتباك.
تدخل أميركا مرّة أخرى على الخطّ بخطابٍ منحاز كلّياً، واستعداد لتقديم الدعم السخيّ، وتَلحق بها أوروبا ولكن كلّ ذلك يفشل أمام إرادة الشعب الفلسطيني وقُواه الوطنية.
الأوضاع معقّدة جدّاً، فمن غير المحتمل أن تنجح الوساطات والرغبة الأميركية في وقف الانهيار لتأمين النجاح في «صفقة التطبيع»، والسلوك الإجرامي الإسرائيلي يتكفّل بتوفير الأسباب لتوسيع دائرة الصراع ليشمل كلّ فلسطين وخارجها، بينما لا تملك إسرائيل سوى الانتقام، وتعميق المآسي الإنسانية لسكّان القطاع، وحصد آلاف الأرواح وتدمير ما يقع فوق الأرض وتحتها، في محاولةٍ فاشلة لرسم صورةٍ انتصارية، وإحباط رغبات جو بايدن الذي يجلس في البيت الأبيض الذي يُحرّض إسرائيل على ارتكاب الجرائم.
(الأيام الفلسطينية)