الذاكرة السياسية

علاقة الجزائر بالأنظمة ذات التوجه القومي.. محطات تاريخية

من مالك بن نبي إلى أحمد بن نعمان.. تلاقي العروبة والإسلام في الجزائر (عربي21)
لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار عريض من النخب العربية. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار، ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد السياسي في المنطقة العربية.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال التاريخي بين التيارات الرئيسية التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئا على هامش هذا السجال.

وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؛ بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية، ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي، الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع السياسي؛ على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها.

"عربي21"، تفتح ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية، وحاجة العرب والمسلمين إليها.

اليوم، يقدم الكاتب والإعلامي الجزائري نصر الدين بن حديد ورقة خاصة من حلقتين لـ "عربي21"، عن تاريخ التيار القومي في الجزائر، يعرض فيها لأهم ملامح علاقة الجزائريين بالفكر القومي في أثناء  الاستعمار وبعده.


عبد الناصر والثورة الجزائرية.

رجوعا إلى التاريخ، نجد أنّ النظام المصري زمن حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، مثّل الداعم الأكبر بالسلاح خاصّة للثورة الجزائريّة. لكن هذا القرب وهذه العلاقة الوثيقة، لم تمنع رئيس أركان الجيش الشعبي الوطني العقيد هواري بومدين من الانقلاب على الرئيس أحمد بن بلّة في شهر حزيران/ جوان 1965، وكان من جملة المآخذ أو هي التهم التي ساقها بومدين من باب تسويغ ما أقدم عليه، شدّة قرب بن بلّة من النظام المصري حينها.

رغم العلاقات الجيّدة التي ربطت الجزائر بالأنظمة ذات التوجه القومي، خاصّة بعد زيارة السادات إلى الكيان الصهيوني وطرد مصر من جامعة الدول العربيّة، وتأسيس "جبهة الصمود والتصدّي"، سنة 1977 من قبل ليبيا، وسوريا، والعراق، والجزائر، ومنظمة التحرير الفلسطينية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.

بقدر القرب من الأنظمة العربيّة ذات التوجه القومي والعلاقة متميّزة، ترفض الجزائر بشكل صارم وقاطع استيراد هذه التجارب الحزبيّة، معتبرة أنّها تمتلك من المُثُل ما يغنيها عن الحاجة إلى أيّ فكر "مستورد"، رافضة تشكيل أحزاب (وإن كانت مجهريّة) ذات توجه "قومي" على ترابها (ضمن التعريف المتداول في المشرق العربي)، مثلما هو حال "حزب البعث" (الخطّ العراقي)، لم يتمكن من تحصيل الترخيص القانوني، يرأسه الأستاذ الجامعي أحمد شوتري.

على مستوى التقسيم الدولي الذي وزّع العالم بين مناصرين (بدرجات) سواء للمعسكر الشرقي أو الغربي، كانت الجزائر ولا تزال، أقرب سياسيا وخاصّة عسكريّا من موسكو، الحليف التقليدي للأنظمة ذات التوجه القومي ضمن الفضاء العربي.

اللغة العربيّة أداة لنحت الذات الوطنيّة.

يمكن تفسير العلاقة التي تربط الجزائر بالفكر القومي العربي وخصوصا بالأنظمة ذات التوجه القومي، بالرغبة أو هي الحاجة في هذا القطر لاستعادة مكانة متقدّمة ضمن الفضاء العربي، وكذلك بغية التخلّص من آثار التغريب التي عملت فرنسا ولا تزال رغم استقلال البلاد على ترسيخها منذ اليوم، لوجودها على الضفّة الجنوبيّة للبحر الأبيض المتوسط.

ضمن هذا التوجه، اتكلت القيادة السياسيّة في الجزائر على عشرات الآلاف من مدرّسي اللغة العربيّة من جمهوريّة مصر العربيّة خاصّة، لنجاح حملة التعريب في البلاد.

لا تزال "الحرب اللغويّة" ضروسا إلى يوم الناس هذا، رغم الانتصارات التي حقّقتها "اللغة الوطنيّة" بفعل انتشارها من خلال عديد القرارات، آخرها اعتبار الإنجليزيّة لغة أعلى مكانة من نظيرتها الفرنسيّة.

جبهة التحرير "حزب قومي".

مثّل حزب جبهة التحرير الوطني، الحزب الأوحد الذي حكم البلاد بمفرده منذ استقلال البلاد إلى غاية 1988، أين عرفت البلاد تجربة تعدّدية، خليطا من التوجهات والتعدّد الفكري، ترجم ما هو قائم ضمن السلطة الحاكمة من تعدّد الرؤى.

عمل "التيّار العروبي" ضمن هذا الحزب منذ اندلاع الثورة على تعزيز موقعه في مواجهات التيّارات الأخرى عبر توطيد العلاقة مع دول المشرق، وتمّ على هذا الأساس، قبل استقلال البلاد وخاصّة بعده، إرسال عديد البعثات الطلابيّة إلى الدول العربيّة ذات التوجه القومي، مصر وسوريا والعراق، بغية تكوين كوادر يمكنها تقلّد أعلى المسؤوليات في البلاد.

يمكن اعتبار عبد الحميد مهري ومولود قاسم نايت بلقاسم والعربي الزبيري وعبد القادر حجار ومحمد بوعزارة، من روّاد هذا "التيّار العروبي" داخل حزب جبهة التحرير الوطني، حيث عملوا على تعزيز موقع "اللغة الوطنيّة" [أيّ العربيّة] ومن وراء ذلك، وفي الآن ذاته، تعزيز العلاقات مع العمق العربي والإسلامي، واستبعاد ما يُسمّى "حزب فرنسا" في الجزائر، أيّ مجمل القوى الرافضة لانتشار اللغة العربيّة.

أسئلة فكريّة ساخنة.

تمتد أسئلة الهويّة والانتماء إلى العمق العربي والإسلامي إلى مجالات الإعلام والثقافة والفكر عامّة.

تسيطر الصحف الناطقة بالعربيّة على السوق الجزائريّة بما يزيد عن الثمانين في المائة من حجم المبيعات، مع توسّع هذا الفارق من سنة إلى أخرى، على عكس مجال النشر أين استطاعت دور النشر باللغة الفرنسيّة الحفاظ على نسبة مهمّة من حجم المبيعات، بل هي أشدّ احتفاء بالإصدارات، بفضل الدعم الذي تلقاه من قبل المركز الثقافي الفرنسي، علما أنّ الأدب الفرنسي يزخر بمؤلّفات كتّاب جزائريين، على رأسهم مالك حدّاد، مولود فرعون، رشيد بوجدرة، ياسمينة خضراء [محمد مولسهول]، وكمال داود وغيرهم، الذين تراوحوا بين اعتبار الفرنسيّة "غنيمة حرب"، ومن اعتبر أنّ "لا أهميّة للغة ما دامت تمكّن من التعبير وإيصال الخطاب".

من مالك بن نبيّ إلى أحمد بن نعمان.. تلاقي الإسلام والعروبة.

على عكس الكتّاب الذي يعتمدون اللغة الفرنسيّة، يعتبر نظراؤهم من العروبيين أنّ اللغة العربيّة تحتلّ أرقى مكانة؛ لأنّها لغة القرآن الكريم، وعندها وبها يتلاقى الإسلام بالعروبة.

موقف نادر ضمن الفضاء العربي، حيث يغيب في الجزائر ذلك الصراع المزمن والمرير بين التيّارات الإسلاميّة ونظيراتها القوميّة، على خلفية تضاد في الرؤى أسال حبرا كثيرا ودماء أكثر منذ خمسينيات القرن الماضي.

أصلّ مالك بن نبي هذا التوجه واعتبره منذ ثلاثينيات القرن الماضي أساس المنهج الفكري لتحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، توجه اعتمده أغلب المفكرين العروبيين، وصولا إلى أحمد بن نعمان الذي يرى أنّ "الإسلامية والعربية صفتان لجسد واحد يتكاملان ولا يتواجهان"، ويعتبر كذلك أنّ "كل هذا التشتت والتحجر والتقلص والانسحاب، يعود إلى الاستحلال أو الاستخراب الذي نجح في تكوين بعض النخب من أهل الدار، ونصبها نائبة عنه لمواصلة تمزيق وحدة الأمة بين "الأنغلوفونية" و"الفرنكوفونية"، والحؤول دون التحام أجزائها من جديد، وهم يفرضون هذه اللغات على شعوبهم المسلمة المتعطشة للغة القرآن، تعطشا لا يعادله إلا كرههم للغة الاستعمار المفروضة عليهم فرضا بالحديد والنار، من حكامهم المفروضين عليهم أيضا من المستعمر نفسه بالانتخاب الصوري، أو بالانقلاب الصريح؛ ليواصلوا مهمة أسيادهم القدامى في معاملة أفراد شعوبهم كقُصَّر جهلة، دون أن يملكوا الشجاعة على مصارحتهم بأنهم وكلاء لخدمة أغراض الأعداء من الكفار في الديار؛ لضرب الوحدة والحضارة بأسماء إسلامية أو مستعارة!!".

اقرأ أيضا: التيّار القومي في الجزائر.. حاضر رغم شدّة الغياب