كتب

محاولة لفهم معالم الرسالة الإسلامية ودورها في نهضة الإنسان والعالم

هل التنوير الإسلامي يحقق تقدما اليوم، أم إنه يتراجع في ظل انهيار الأوضاع السياسية والاجتماعية في الوطن العربي؟
الكتاب: "في سبيل التنوير"
المؤلف: مهنا الحبيل
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2019


"هل التنوير الإسلامي يحقق تقدما اليوم، أم أنه يتراجع في ظل انهيار الأوضاع السياسية والاجتماعية في الوطن العربي، التي لا تلقي بظلالها، فقط، على المشهد الثقافي وإنما تخنقه حتى ينحاز لإطارها الأيديولوجي أو مربعات المستبدين وما أكثرها؟". هذا هو التساؤل الذي ينطلق منه الباحث السعودي مهنا الحبيل، مدير مكتب دراسات الشرق الإسلامي في اسطنبول، ممهدا به لمجموعة من الملاحظات والتأملات في كتابه هذا، حيث يفتح أبوابا لحوارات متعددة الأطراف والمضامين، لكنها تدور كلها حول سبل تحقيق التنوير، أو"الرسالة النهضوية القائمة على فهم معالم الرسالة الإسلامية بصورة استراتيجية بعيدة عن العاطفة والشعبوية".

يقول الحبيل أنه "مع كثرة الجدل والتشويش المتعمد، والتوظيف السياسي الضخم لمصطلح التنوير الإسلامي، فإن إعادة التذكير بمعالمه الكبرى هي من الضرورات اليوم لمعالجة خلل التخلف، وتمكن الاستبداد من حاضر العالم الإسلامي. هو تخلف لم يعد مربوطا بقواعد الجهل العام، بل قد تجد أكاديميين وأساتذة موجهين، يمارسون الجهل والتجهيل في سؤال النهضة، وهم في أحيان كثيرة عائق صلب لمنع فكر النهضة من التواصل وتحقيق التهيئة لواقع ثقافي يعي فيه الإسلاميون وغيرهم أهمية النقد والنقض للعقود الماضية، لندخل إلى بناء النهضة المدنية، التي عبرها تقوى دول الشرق ومجتمعاتها، ويقوى خطاب الفكر الإسلامي أينما حل".

لا بد للعقل المسلم من أن يعي أن أولى قواعد الانطلاق هي أن الإسلام قدم رسالة إنقاذ للبشرية طبقت في أزمان متفاوتة كليا أو نسبيا بحسب الظرف التاريخي.. وقد كانت هذه الرسالة مبعث تفكير ترشيدي ضخم للرحلة البشرية
ويلفت الحبيل إلى أن التنوير المقصود ليس رفاهية، وهو يعتمد على فهم معالم الرسالة الإسلامية، وآثارها في نهضة الإنسان ثم العالم، وأنها الجسر بين القيم والروح المطمئنة، والحقوق والحياة المدنية التي يحتاجها كل إنسان.. هو في الحقيقة تنوير للعالم لا للمسلمين وحسب. وفي الوقت ذاته فإن مشروع "التنوير الديني" للاستبداد العربي، بحسب الحبيل هو مجرد لعبة شراكة دولية مع مصالح هذا الاستبداد، لتغطية إرهاب التظام الأمني والتغطية على عدائيته للفكر الإسلامي. لذلك فإنه مهما قيل من تشويه أو هجوم على التنوير الإسلامي الأصيل فإنه في الحقيقة يحمل سر النهضة المدنية التي تؤسس لأي فكر حقوقي وسياسي.

وهنا لا بد للعقل المسلم من أن يعي أن أولى قواعد الانطلاق هي أن الإسلام قدم رسالة إنقاذ للبشرية طبقت في أزمان متفاوتة كليا أو نسبيا بحسب الظرف التاريخي.. وقد كانت هذه الرسالة مبعث تفكير ترشيدي ضخم للرحلة البشرية، من الإيمان بالروح ومأسسة الأخلاق عليها، إلى السلوك المدني والعدالة السياسية، وإضافة لهذه الخلاصات فإن فلسفة الروح والجسد والعقل والإيمان، التي جمعتها الرسالة الإسلامية، لا مثيل لها اليوم ولا الأمس حين تُعتمد مصداقية المقارنة بنزاهة حقيقية.

أزمة عقل

يرى الحبيل أن ما يجري اليوم من انهيار دول ومجتمعات بات تحت مستوى الصراعات التي يمكن التعايش معها، كسقوط الدول أو الحروب الأهلية، أو الحرب الاستبدادية الشاملة على الشعوب، وغياب أدنى درجات السكينة والمعيشة للدولة الوطنية، ومن ذلك خضوع أي بلد لحالة مطاردة وحشية لدعاة الإصلاح الديمقراطي والفكرة الإسلامية المعتدلة ، باستخدام تيار ديني مصنوع أو عنصري محرض أو بالبطش المباشر. لكنه يؤكد أن المهيمنين والمستبدين لا يتمكنون من تحقيق تلك الاختراقات من دون "ذلك الرصيد الكبير من عجز الذات وضحالة البنية الثقافية، التي يحتاجها المسلم المعاصر.. فتحديات الانهيار ليست سياسية ولا جغرافية فحسب، ولكنها فكرية..".

ويقول أننا نحتاج أن نستذكر اليوم حجم الأزمة التي يعيشها العقل المسلم لغياب صناعة الفكر الجديد، وتنظيم سؤال المعرفة الإسلامي. إن حالة التخلف الواسع عن مسارات الوعي المعرفي كبيرة جدا، وتحتاج إلى جهود مضاعفة لكي تتحول إلى برنامج عملي مبسط للجمهور ومتعمق للنخبة، يُرشّد به التدين الإسلامي الحديث، الذي لم يفق بعد من نتائج مشروع مطاردة الحرية الذي نفذ ضد الربيع العربي، وما سبقه عبر ثقافة الغلو والانغلاق الطاردة لفكر المعرفة الإسلامي، أضف إلى ذلك فإن خصوم "هذا الشرق" وخصوم استقلاله حريصون كل الحرص على أن يبقى هذا الانحطاط وهذا التخلف بين المسلمين.

ويتابع الحبيل أن مهمة العقل المسلم الذي يطلق رحلة المعرفة لوعي مقاصد الشريعة، وتجربة البشر واستيعاب تفوقهم النهضوي المحمود، وخللهم الأخلاقي وأين نجحت القيم لديهم، وأين فشلت بسبب غرائزهم، تحتاج أن تسبق مدارات التطبيق لمقدمة الفهم السياسي والاجتماعي بسنوات، هي حصيلة تراكمية مهمة حين تتاح لها وسائط أوسع ومنابر ومؤسسات تخصص أكبر. لكن المشكلة الكبيرة اليوم هي أن برامج التلقي للخطاب الإسلامي أو المنابر والمؤسسات الفكرية والإعلامية غير متحمسة مطلقا لإفساح هذه المساحة الضرورية، وقد يبادر لخنقها مقابل مساحة الحوار السياسي، بغض النظر عن مصداقية القضية التي يتبناها هذا الخطاب، وليس المقصود تنحية الكفاح السياسي، إنما عدم احتكاره لكل مدارات العقل والفكر المعاصر.

نهضة عربية أولاً

يفرد الحبيل أحد فصول كتابه لمناقشة أهمية تصحيح موقف الإسلاميين من العروبة، حيث يؤكد على ضرورة أن ينخرط الإسلاميون العرب في مشروع شراكة عربي موحد لا يتورط بمسارات سياسية، لكنه منسجم كليا في إطار المشروع العربي للنهضة، الذي لا يغير حقيقة أن النجاة من مضلة الاضطهاد السياسي والإنساني البشع، والخروج من مأزق الصراع العرقي والمذهبي والفكري المتعدد، لا تختلف فيه المؤسسات الكبرى لحلم النهضة العربية أكان إسلاميا أو قوميا. وهو مع ذلك لا ينفي أن مساحة الخلاف بين الحالة العلمانية العربية بأطيافها والحالة الإسلامية بأطيافها ليست سهلة، سيما في ظل استغلال أنظمة الاستبداد المتعددة لها، لإبقاء الحرب الفكرية مشتعلة ما يساعدها في بسط سلطتها. لكنه يلفت إلى أن أهم أسباب ممانعة بعض الإسلاميين للإقرار بالمظلة العروبية هو شعور العربي الإسلامي أن ذلك يقطعه عن الوحدة الأممية الرسالية التي نص عليها القرآن الكريم وخطابات النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

مسألة ربط العروبة بهدم الجسور بين قوميات الأمم غير العربية التي آمنت بالرسالة، في عقلية الشاب العربي الإسلامي، هو في الحقيقة ضمن سياق مفهوم القومية الحادة، وليس مقرا في كل اتجاهات العروبيين.
ويتابع أن مسألة ربط العروبة بهدم الجسور بين قوميات الأمم غير العربية التي آمنت بالرسالة، في عقلية الشاب العربي الإسلامي، هو في الحقيقة ضمن سياق مفهوم القومية الحادة، وليس مقرا في كل اتجاهات العروبيين. وإن كان مفهوم الدعم والانتصار للعدل مطلب لا يغيره الزمن بين أقوام الرسالة، غير أن صناعة اتحاد أممي، يحتاج منا أن نعتني بوطننا العربي لينهض بذاته، وبعد ذلك يمكنه أن يدعم كل الأمم الأخرى، دون أن نغرق الشباب العربي في صراعات بعيدة أو نؤذي الأمم الشقيقة بتصدير المشاكل وإقحامها في صراعاتنا الفكرية والسياسية، أو توسيع الصراعات والتدخل في بنية هذه الأمم.

من هنا فإن الدعوة إلى إحياء الفكرة العروبية "بوعي جديد" هي في الأساس في صالح الوطن العربي، حيث لا يستثني هذا الوعي ولا يشترط على أشقائه الأمازيغ ولا الكرد ولا غيرهم، اعتقادا ايديولوجيا ولا حتى يلزمهم بالانتساب إليه، وإنما الشراكة معهم في إعادة البنية الحضارية الثقافية للمجتمع العربي، لأننا جميعا تحت واقع التاريخ السياسي والجغرافي والحضاري لأرض العرب، التي تشكل حضارتها أحد أركان العالم القديم والجديد. إن العروبة، بحسب ما يقول الحبيل، هي أكثر اتصالاواندماجا مع مسؤولية حمل الرسالة الإسلامية.

الانعطافات الضخمة

تحت عنوان "الإسلام والمشروع الإنسانوي للمستبدين" يشرح الحبيل كيف أن التلاعب بالفكرة الدينية قديم وليس بالأمر الجديد، لكنه يحذر من أن ما يحدث اليوم في هذا السياق يمثل عاصفة هوجاء قوية، تقول للناس ضمنا إن الخلل في فكرة الإسلام ذاتها، ولا تسمح لهم بالدفاع عنها، ولا بمنصات حوار حرة مع الفلسفات الوجودية، أو المختلفين عقائديا ومدنيا، ويتزامن ذلك مع حركة قمع حكومي مزدوجة؛ ضد الوجدان المسلم الطبيعي نفسه، وأخرى عنيفة تقتل أو تسجن أو تعذب بتوحش جماعات وشخصيات إسلامية بغض النظر عمن هو معتدل أو محافظ أو متشدد منها.

يقول الحبيل إن الفارق هنا هو بين المفهوم الإنساني للإسلام كركن أساس مع العدالة الاجتماعية وإعادة صياغة الوعي الإسلامي عبره، بما في ذلك الحياة المدنية للشعوب، وبين إعلان الإنسانوية الطقوسية كبديل، وهو ما يروج له اليوم. هذه الإنسانوية قد تستدعي مسارات تصوف قديمة، تفهم تماما ضمن خريطة الحريات الأخلاقية والفكرية، التي سادت في الشرق، لكنها لا تمثل معادلة مقابلة للرسالة الإسلامية، بل إنها باسم الطقس الإسلامي القلبي تقدم اليوم لتعزيز قوة القهر للشعوب ودعم السلطة القمعية، ورفض أي موقف احتجاجي على ازدواجية الغرب، أو مذابحه قديما وحديثا. من جهة أخرى يرى الحبيل أنه لا بد من مواجهة أدواء الواقع الإسلامي وهيمنة الفكرة "الشعوبية" العاطفية عليه، فالمسلمين مازالوا يقفزون من عاطفة إلى عاطفة، ومن ردود فعل متسرعة إلى أخرى هوجاء، من دون أن يبصروا الحقيقة ويترفقوا في الفهم.

يقول الحبيل إن في محطات الانعطاف الضخمة الاجتماعية والسياسية التي تعيشها الأمم مدخل للقاعدة الفكرية لأي تغيير وتحول في ثقافة الأمم والشعوب، وهو ما يشكل ركيزة لبناء جديد واستشراف مآلات النهضة والتنمية، أو السقوط في دوائر العنف والتخلف من جديد.

ويضيف أن ما يعيشه الوطن العربي اليوم من هذا الواقع الذي تحول إلى منظومة أحداث تهوي بالدول، وبأمن الشعوب هو نوع من أحداث التاريخ الضخمة التي تسبق التحول الفكري، حيث تتفاعل عناصر ثلاثة في المشهد الاجتماعي والسياسي من شأنها أن تشكل خريطة المستقبل، وهي نظم الاستبداد، والمصالح العالمية الحليفة لها، وحركة النهوض بحقوق الشعوب.