أفكَار

لماذا تعذر توطين التيار القومي بالمغرب؟ (2من2)

وجهات نظر تبحث في العوائق التي حالت دون تمدد الفكر القومي في المغرب- (عربي21)
لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار عريض من النخب العربية. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار، ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد السياسي في المنطقة العربية.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال التاريخي بين التيارات الرئيسية التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئا على هامش هذا السجال.

وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؛ بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية، ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي، الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع السياسي؛ على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها.

"عربي21"، تفتح ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

يواصل الدكتور بلال التليدي، في ورقته التي كتبها خصيصا لـ "عربي21" حول ملف القوميين العرب، إلقاء الضوء على سبب فشل انتشار الفكر القومي العربي في المغرب الأقصى.


لماذا تعذر توطين الفكرة القومية بالمغرب؟

ربما كانت الأسباب الثلاثة كافية للإجابة عن سؤال إخفاق الفكرة القومية في التمدد للمغرب الأقصى، لكن في الواقع ثمة تقريبا تسعة أسباب تفصيلية، اعتمدت أساسا في تحصين المغرب من توطين الفكرة القومية، سنحاول في هذا المقال تفسير الدور الذي قامت به مع الإشارة إلى شواهد تعزز قدرتها التحصينية.

1 ـ سياق الدولة السلطانية:

غالبا ما يدرج هذا السبب ضمن ما يسمى ب"الاستثناء المغربي"، أو التباين التاريخي في السياق المغربي والمشرقي، فالمغرب عرف دولته السلطانية منذ الدولة الإدريسية، ولم يخضع للدولة العثمانية ولا لسياساتها، وظل يتمتع باستقلاله السياسي إلى أن خضع للحماية الفرنسية، بل جيش التحرير، والنخب السياسية التي كانت تقاوم الاستعمار، لم تقطع علاقاتها العرش، بل كانت تناضل من أجل عودة الملك لعرشه، فقد كشفت مفاوضات "إيكس ليبان" عن مناورة فرنسية قدمتها بين يدي رجالات الحركية الوطنية المفاوضة، إذ طلبت منهم تقديم تصورهم لمستقبل المغرب بدون ملكية، وما هي رؤيتهم للطريقة التي يمكن بها حماية المصالح الفرنسية بالمغرب، فكان جواب الحركة الوطنية، أن مستقبل المغرب رهين بعودة الملك محمد الخامس لعرشه.

يعكس هذا الجواب في الجوهر الخلاف المفصلي بين التجربة المشرقية والتجربة المغربية، فالفكرة القومية التي نشأت في سياق مقاومة هيمنة الدولة العثمانية وما يرمز لها كيانها السياسي (الخلافة الإسلامية) لم يوجد في المغرب ما يبررها، بسبب تلاحم الإرادة الوطنية مع الإرادة الملكية في المغرب، فالمشرق الذي كان يرى شعار الوحدة الإسلامية عنوانا لتبرير الاستبداد العثماني، كان يقابله في الجوهر، مغرب أقصى ترى نخبه الوطنية أن  مصدر الهيمنة تأتيه من الغرب، وأن سبيل مواجهتها، تكمن في العمل على بلورة صيغة لإصلاحات من داخل الدولة السلطانية وفي انسجام معها.

على أن الأمر لا يتوقف فقط على هذه المفارقة، بل ثمة عنصرا آخر، يتفرع عن السياق ذاته، ويتعلق بعلاقة علاقة الدين بالدولة، فالدولة السلطانية، كما عرفها المغرب، أثمرت علاقة منفتحة بين الدولة والدين، تجعل إمارة المؤمنين تقوم بدور وحدوي وتحكيمي وتضامني، وتسمح بقدر كبير من ممانعة احتكار الدولة للدين، سواء من قبل مؤسسة العلماء التي ظلت تبدي رأيها في قضايا الشأن العام باستقلال عن توجيه السلطة (رابطة علماء المغرب) أو من قبل الأحزاب  السياسية (حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال) أو من قبل قوى المجتمع الحية.

هذه الصيغة على ما بدا فيها من ارتباكات في بعض المحطات (لاسيما احتكار الدولة للشأن الديني) كانت تمثل بالنسبة للنخب المغربية الخيار الأفضل الذي لا يضاهيه خيار العلمنة، إذ كانت النخب السياسية والعلمية تجد في الدين سندا لمقاومة احتكار الدولة للدين، وكانت تدرك أن المضي في مسار العلمنة كان بمثابة تقديم مبرر كاف للسلطة للهيمنة على الحقل الديني برمته، واكتساب مصادر الشرعية لمواجهة الخصوم.

2 ـ غياب الطائفية الدينية:

يلاحظ بعض المفكرين، ومنهم محمد عابد الجابري، أن القومية العلمانية نشأت في مناخ الطائفية، أي في المجتمع العربي الذي يعرف طوائف مسيحية (لبنان، مصر، سوريا، العراق، فلسطين)، وأن ليس هناك ما يبررها في المجتمعات التي لا تعرف طوائف مسيحية مثل المغرب.

الحفريات الأولى لنشأة القومية العربية، وكذا مسار تطورها، يقرر هذه الحقيقة، فأغلب الذين ساهموا في بلورة الأطروحة القومية، كانوا من العرب المسيحيين، وكانوا يرون في الدولة العثمانية نموذجا لهيمنة الدولة الشمولية على المجتمع، وأنه لا خيار للتحرر منها إلا بالبحث عن مصادر تؤسس لشرعية وحدودية جديدة قادرة على تعبئة المقاومة ضد الكيان السياسي للدولة العثمانية، وأن ذلك لا يمكن أن يلتمس خارج اللغة والثقافة والتاريخ المشترك، وأن الدين لا يمكن أن يقوم بأي دور في هذا الاتجاه، لأنه  يمثل جوهر المشروع الذي يتم التعبئة للتحرر منه (أي الدولة العثمانية). في حين، لم يكن في السياق المغربي مثيل لهذه الحالة، لا في جزئية الطائفية، ولا في جزئية الدولة الشمولية.

3 ـ خصوصيات السياق الاستعماري بين المشرق والمغرب

مر بنا أن مقاومة الاستعمار في السياق المشرقي كانت مقترنة بمقاومة الدولة العثمانية والتحرر من هيمنتها، بينما كانت مقاومة الاستعمار الفرنسي في المغرب مقترنة بالتماهي مع الدولة المغربية الاتقاء بإراداتها.

لكن في الواقع، ليس هذا فقط ما يميز خصوصيات السياق الاستعماري بين المشرق والمغرب، بل ثمة بعد آخر، لا بد من تسليط الضوء عليه، فالاستعمار في الحالة المشرقية، كان يعتبر القضاء على الكيان السياسي للدولة العثمانية (الخلافة الإسلامية) الرهان الاستراتيجي الأكبر، وقد كشفت بنود اتفاقية سايكس بيكو عن جزء من هذه الرهانات الاستراتيجية، والتي كانت تتمحور كلها على القضاء أولا على تركة الرجل المريض، ثم اقتسامها بين فرنسا وبريطانيا، على أن يعطي استقلال شكلي للدول العربية مقال خضوعها انتداب بريطاني أو فرنسي، يعبر عن شكل جديد من أشكال الاستعمار.

في التجربة المغربية، كان السياق الاستعماري مختلفا، إذ تدخل عاملان مهمان ساهما في تأخير الحالة الاستعمارية إلى سنة 1912، أولهما هو قدرة الدولة المغربية على إدارة التناقضات بين القوى الاستعمارية التي كانت تتصارع على اقتسام النفوذ بالمغرب (فرنسا، بريطانيا، إسبانيا، ألمانيا...). والثاني، هو وجود شرعية سياسية، تضمن لقاء إرادة بالدولة بالمجتمع، إذ ابانت لحظة عزل المولى عبد العزيز وتولية المولى عبد الحفيظ، عن قدرة الأمة، في الحفاظ على الشرعية السياسية، دون الوقوع في صدام الدولة بالمجتمع، كما حصل في التجربة المشرقية، التي كان فيها التأسيس لشرعية جديدة لمواجهة الاستعمار يتم أساسا بنقض الشرعية القائمة.

يلاحظ بعض المفكرين، ومنهم محمد عابد الجابري، أن القومية العلمانية نشأت في مناخ الطائفية، أي في المجتمع العربي الذي يعرف طوائف مسيحية (لبنان، مصر، سوريا، العراق، فلسطين)، وأن ليس هناك ما يبررها في المجتمعات التي لا تعرف طوائف مسيحية مثل المغرب.
وتبعا لهذه المفارقة، فقد كان الاستعمار يواجه في الحالة المشرقية بنقض شرعية الدولة العثمانية عبر تفكيك سلطتها والتحرر من هيمنتها، بينما كانت مقاومة الاستعمار في التجربة المغربية تتم عبر الحفاظ على شرعية الدولة أو تجديدها أو تصحيح أعطابها دون المساس بالتقاء إرادتي الدولة والمجتمع.

4 ـ الظهير البربري والحساسية المغربية: 

تمثل الانتفاضة التي أقامها المغاربة ضد سياسة الظهير البربري (التفرقة بين الأمازيغ والعرب) دليلا على العوائق التي مثلها النموذج المغربي أمام تمدد الفكرة القومية، فالسياسة الاستعمارية، كما يحكي علال الفاسي في "دفاعا عن  الشريعة" قررت من خلال ظهير 18 ماي 1930 إقفال المحاكم الشرعية التي كانت تعمل في مناطق البربر (مناطق الأمازيغ) فحكمت بذلك باقتطاع جزء من أراضي المغرب من اختصاص المحاكم الشرعية إلى محاكم تعمل بالأعراف، إلا ما تعلق بالجرائم القائمة في تلك المناطق، فأناطت اختصاصها للمحاكم الفرنسية، فشكل الظهير سببا لقيام انتفاضة مغربية شاملة انطلقت من المساجد تهتف باللطيف، وتحذر من التفرقة بين العرب والأمازيغ، وقد لفت علال الفاسي الانتباه، إلى أن  الاستعمار رغم أنه لم يفعل أكثر من نقل الاختصاص من محاكم مغربية تعمل بالشريعة لفائدة محاكم مغربية تعمل بالأعراف المغربية، فإن ذلك، ولد ردة فعل قوية لم يتردد الأمازيغ في قيادتها والمشاركة فيها، وهو يؤكد وجود حساسية كبيرة من تمدد أي فكرة، تنطلق من قاعدة اثنية أو لغوية، تستثني طرفا من الشعب المغربي.  ولعل هذا ما يفسر في الجوهر إخفاق تمدد التيار القومي للمغرب، كما يفسر إخفاق التيارات الأمازيغية التي تقوم على مقولات" مقاومة الفتح الإسلامي"، أو "مقاومة تعريب المغرب".

5 ـ القومية ومخاطر التفجر الإثني بالمغرب:

يتفرع عن النقطة السابقة، سبب آخر، يتعلق بالطبيعة الاثنية والدينية للمغاربة، فالمغرب يعرف على هذا المستوى سمتين متقابلتين، أولهما وحدة الدين، وثانيهما تعدد الاثنيات اللغوية، بحيث تضمن الوحدة الدينية التعدد الديني وتؤمن تعايشه وتصاهره، وهما السمتان اللتان لا تخدمان فكرة قيام تيار قومي بالمغرب، وذلك من جهة أن الطابع العلماني للفكرة القومية، يقاومه مبدأ الوحدة الدينية والمذهبية للمغرب، وأيضا من جهة أن الفكرة القومية من حيث كونها مشروعا قائما على اللغة والثقافة العربية والتاريخ العربي المشترك، يهدد بتفجر الصراع الاثني بالمغرب.

6 ـ جدل الشرق والغرب في إشكالية النهضة:

يحكي محمد عابد الجابري في "مواقفه" موقفا طريفا يكشف المفارقة بين السياق المغربي والسياق المشرقي في تمثل مفهوم النهضة، فقد كان يحاور زعيم المعارضة المغربية المهدي بن بركة، فسأله عن المشرق، فقال له: "الغرب غرب، والشرق شرق" بما يعني أن عينه كانت تتطلع للتجربة الغربية، وأنه لم يكن يدخل ضمن اعتباره وجود نموذج مشرقي للنهضة على غرار ما تبشر به التجربة القومية العربية، ويحكي الجابري أن نظرته تغيرت قليلا لما زار سوريا، وأنه بدا يقر بوجود تجربة نهضوية مشرقية.

تكشف هذه الحادثة التاريخية، أن النخب المغربية، كانت تتعلق بنموذج آخر للنهضة، غير ما تطرحه الأدبيات المشرقية، إذ كان الحلم النهضوي معلقا بتجربة مغربية تقترب من النموذج الغربي، مع حفاظها على مقوماتها التاريخية.

7 ـ الفكرة اليسارية:

فرضية التجديد الماركسي العربي أو فرضية اللبرلة من أجل التحديث: من الأسباب التي جعلت النموذج المغربي يستعصي على الفكرة القومية، أن تيار المعارضة السياسية، استقبل الفكرة اليسارية وتبناها سواء على مستوى مؤسسي (أحزاب سياسية) أو على مستوى مجتمعي (تيارات سياسية سرية انشقت عن الأحزاب)، وقد عكست هاتان التجربتان التأثر بالنموذج السوفياتي (لينين أو تروتسكي) أو الصيني (ماوتوسي تونغ)، وقد نتج عن تعثرات انحراف النموذج الاشتراكي، تفتق مدرستين فكريتين نقديتين في المغرب، ألأولى تطرح التجديد  الماركسي استلهاما لنمط الإنتاج الأسيوي التي طرحها  كارل ماركس، أي إقراراه بوجود خصوصيات لبعض المناطق تستدعي إجراء تعديلات على حتميته التاريخية.

سواء تعلق الأمر، بالتماهي الأرثودوكسي مع الفكرة اليسارية (التيارات الجبهوية) أو بالانخراط في أطروحة التجديد الماركسي (منظمة العمل الديمقراطي) أو في تبني مرحلة وسيطة والانخراط في الدعوة الليبرالية (عبد الله العروي)، فإن هذه النماذج المختلفة من التعامل مع الفكرة اليسارية كانت لا تدع أي فرصة أو تربة خصبة لتمدد الفكرة القومية بالمغرب.
والثانية، تطرح فكرة المرحلة الانتقالية، أي المرور بنفس عناصر التجربة الغربية حتى يتيسر المرور لمرحلة الحداثة، وبالتالي جعل الليبرالية مرحلة ضرورية من أجل الانتقال إلى الاشتراكية، لأن نمط الإنتاج الاشتراكي، لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل نمط إنتاج رأسمالي، وأن بذلك لا يتحقق إلا في وجود دولة ليبرالية، ولذلك لم يجد  عبد الله العروي بأسا من الدعوة إلى هذه المرحلة الوسيطة، بل لم يجد أي حرج في أن تقوم الدولة نفسها بهذا الدور وإن بشكل قسري (اللبرلة من فوق) وأن يتم دعمها من قبل القوى التقدمية، في سبيل الفطام من ثقافة الأم والتحرر من التقليد  الذي يسيطر على ثقافة المجتمع.

وهكذا، وسواء تعلق الأمر، بالتماهي الأرثودوكسي مع الفكرة اليسارية (التيارات الجبهوية) أو بالانخراط في أطروحة التجديد الماركسي (منظمة العمل الديمقراطي) أو في تبني مرحلة وسيطة والانخراط في الدعوة الليبرالية (عبد الله العروي)، فإن هذه النماذج المختلفة من التعامل مع الفكرة اليسارية كانت لا تدع أي فرصة أو تربة خصبة لتمدد الفكرة القومية بالمغرب.

فإذا انضاف إلى ذلك استراتيجية الدولة في مواجهة هذه التيارات، لاسيما منها التي تتبنى فكرة العنف الثوري والعمل المسلح ضد النظام أو تتبنى استراتيجية التنسيق مع الأنظمة الخارجية لتحقيق الثورة، فقد تبين بالتحديد السبب الذي جعل المساحة تضيق إلى أبعد الحدود على وجود تيار قومي بالمغرب، فقد لجأت الدولة إلى تشجيع التيارات الإسلامية وقامت بدعم مناهج التدريس الإسلامية لمواجهة التمدد اليساري (رسالة الملك الحسن الثاني: رسالة القرن)

8 ـ  توتر العلاقات بين التجارب القومية وبين الملكية بالمغرب:

لا نحتاج لنقدم وقائع تفصيلية عن الصراعات والتوترات التي نشأت بين التجارب السياسية للقومية، وبين الملكية، فالتيارات القومية، وقبل أن يبدأ صراع المحاور العربية، باشرت عملية بناء تحالفات استراتيجية، جعلت المغرب في فوهة بركان، إذ قدمت مصر دعما كبيرا للجزائر وليبيا، فصار أمن المغرب القومي ووحدته الترابية (الصحراء)، مهددة، فكان من الطبيعي أن تتجه السياسة في المغرب متجه تعبئة القوى المجتمعية ضد الفكرة القومية، وضد نماذجها الفكرية والسياسية. ولعل ما يفسر جزءا من هذه الصورة، أن عددا من علماء المغاربة ومفكريهم (نموذج علال الفاسي)، ناهضوا إقدام عبد الناصر على إعدام سيد قطب، وكانوا يستقبلون كتب الإخوان المسلمين، وكان المغرب يمثل ساحة مهم لانتشار أدبياتهم.

9 ـ الازدواجية في قسم الفلسفة:

نورد هذا السبب الجزئي، رغم أنه لا يضاهي الأسباب السابقة من حيث القيمة.

على أن ما يدعو إلى اعتباره، هو الدور الذي قام به قسم الفلسفة في كليات المغرب، وتحديدا كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط في تأطير النخب المغربية، إن لم نقل تأطير غالبية قوى المعارضة ونخبها السياسية.

وتبعا لرواية خاصة قدمها محمد سبيلا رحمه الله للكاتب، فقد كان قسم الفلسفة بهذه الكلية على قسمين: فرنسي وعربي، وكان المهيمن فيها هو القسم الفرنسي. وبينما كان المعربون يواكبون الأدبيات المشرقية ويتفاعلون معها، كان القسم الفرنسي، أكثر اهتماما بالنماذج الغربية، وبخاصة تجربة التحديث كما بلورها الفلاسفة الألمان والفرنسيون.

ويعتبر سبيلا أن المفرنسين (عبد الله العروي نموذجا) كانوا أكثر حظا وتأثيرا، وأن المعربين (الجابري وسبيلا وغيرهم) ظلوا أكثر تهميشا، وأنهم صنعوا مجدهم بجهدهم وعلاقاتهم الخاصة، لكنهم مع نقطة اللقاء التي تجمعهم مع المشارقة، احتفظوا باستقلالهم وأطروحاتهم الخاصة، ولم يندمجوا في مشاريعهم.

تكفي هذه الشهادة لتأكيد ما سبق وأن ذكرناه من ميل النخب المغربية المثقفة إلى النماذج الغربية أكثر من النماذج المشرقية، فهي تكشف عن دور كان تقوم به إحدى أهم المصادر التي كان يراهن عليها لصناعة رأي عام من النخب السياسية والفكرية المغربية.

خاتمة:

هذه الأسباب التسع، تجتمع كلها، لتبين العوائق التي حالت دون تمدد الفكر القومي في المغرب، فلا الدولة ولا بنيتها، ولا السياق الاستعماري، ولا النخب الإسلامية واليسارية، ولا التعدد الإثني، ولا التركيبة الدينية للمجتمع، ولا السياسة التي أنتجتها التجارب القومية، ساعدت في توفير تربة تساعد على نمو الفكرة القومية بالمغرب.

إقرأ أيضا: لماذا تعذر توطين التيار القومي بالمغرب؟ (1 من2)