ملفات وتقارير

ما الحصيلة الاقتصادية لـ18 شهرا من "الإجراءات الاستثنائية" بتونس؟

زادت معدلات التضخم في تونس بعد انفراد سعيّد بالسلطة- جيتي
يُجرى الدور الثاني من الانتخابات التشريعية المبكرة في تونس التي دعا إليها الرئيس قيس سعيّد، الأحد، في الوقت الذي تعيش فيه البلاد أزمة اقتصادية، فاقمتها تداعيات تفشي جائحة كورونا، وارتفاع تكلفة استيراد الطاقة والمواد الأساسية إثر الأزمة الروسية الأوكرانية.

وألقى الوضع الاقتصادي بظلاله على الدور الأول من الانتخابات، الذي أجري في 17 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، حيث بلغت نسبة المشاركة 11.22 بالمئة، كأضعف حصيلة منذ ثورة 2011 التي أطاحت بنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.

ذلك ما أكده المدير التنفيذي لمرصد شاهد لمراقبة الانتخابات ودعم التحولات الديمقراطية ناصر الهرابي، في تصريح لـ"عربي21"، مؤكدا أن الوضع الاقتصادي الحالي لا يشجع التونسيين على المشاركة في الانتخابات.

وأمام الأزمة الاقتصادية، تأمل تونس في الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، رغم تعثر المفاوضات بسبب برنامج الإصلاحات الاقتصادية.

وفي وقت سابق، أجّل صندوق النقد اجتماع مجلس إدارته بشأن برنامج القرض التونسي، الذي كان مقررا في 19 كانون الأول/ ديسمبر، بعد إعلان اتفاق بينهما في وقت سابق.

وجاء هذا القرار من أجل منح السلطات التونسية مزيدا من الوقت للانتهاء من إصلاحاتها، حيث تعتزم تونس إعادة تقديم ملف برنامج الإصلاح مرة أخرى عند استئناف اجتماعات صندوق النقد في آذار/ مارس 2023.

وفي تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أعلن صندوق النقد الدولي عن توصله إلى اتفاق مع تونس، سيتم من خلاله منح قرض للبلاد بحوالي 1.9 مليار دولار على مدى 4 سنوات.

وفي السياق، أجرت "عربي21" مقارنة شملت أبرز المؤشرات الاقتصادية في تونس لما قبل إعلان التدابير الاستثنائية من طرف الرئيس قيس سعيّد في 25 تموز/ يوليو 2021 وما بعده، استنادا إلى الأرقام الرسمية التي نشرها البنك المركزي التونسي.

وفي مساء 25 تموز/ يوليو 2021، أعلن سعيّد تجميد اختصاصات البرلمان لمدة شهر قبل أن يحله نهائيا العام الماضي، ورفع الحصانة عن نوابه، وإلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، وترؤسه للنيابة العامة، وعزل رئيس الوزراء هشام المشيشي وفريقه الحكومي، وإقالة مسؤولين آخرين، وصولا إلى عقد انتخابات برلمانية جديدة.

وبرر الرئيس سعيّد إجراءاته برغبته في "إنقاذ" البلاد من الأزمة السياسية وتفشي وباء كورونا، فضلا عن الأزمة الاقتصادية التي أثرت على قوت المواطنين، بحسب تعبيره.

التضخم

وتسارع نمو تضخم أسعار المستهلك على أساس شهري في تونس إلى 10.1 بالمئة على أساس سنوي، خلال كانون الأول/ ديسمبر الماضي، صعودا من 9.8 بالمئة في تشرين الثاني/ نوفمبر السابق له، في وقت تعاني فيه تونس من استمرار نسق ارتفاع أسعار السلع في السوق المحلية.

وتوقع محافظ البنك المركزي مروان العباسي ارتفاع نسب التضخم إلى 11 بالمئة في 2023، مع استمرار ضغوط الأسعار العالمية على الأسواق المحلية.

وقال العباسي، إنه "لا يوجد أمام تونس العديد من الحلول لمحاربة ارتفاع نسبة التضخم.. أغلب دول العالم تلجأ إلى زيادة أسعار الفائدة، على غرار ما قرره البنك المركزي التونسي".

في المقابل، كانت نسبة التضخم في حدود 6.5 بالمئة خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2019، تزامنا مع انتخابات مجلس النواب الذي حلّه الرئيس سعيّد العام الماضي، ثم تراجعت إلى 5.8 بالمئة خلال شهر شباط/ فبراير 2020، بعد المصادقة على حكومة رئيس الوزراء الأسبق إلياس الفخفاخ، لتستقر النسبة في حدود 5.4 بالمئة مع تولي رئيس الوزراء الأسبق هشام المشيشي منصبه في أيلول/ سبتمبر 2020، ثم 4.8 في آذار/ مارس 2021.

وعقب إعلان رئيس البلاد سعيّد عن الإجراءات الاستثنائية في 25 تموز/ يوليو 2021، ارتفعت نسبة التضخم في البلاد إلى حدود 6.4 بالمئة نهاية ذلك الشهر، قبل أن تسجل نسبة التضخم ارتفاعا ملحوظا في شباط/ فبراير 2022، مع انطلاق الحرب في أوكرانيا، حيث بلغت 7 بالمئة، بعد 4 أشهر من تولي نجلاء بودن رئاسة الوزراء.

وبحلول الانتخابات التشريعية، فقد وصل التضخم إلى مستوى قياسي عند 10.1 بالمئة، وهو الأعلى منذ أكثر من ثلاثة عقود، بحسب بيانات صادرة عن المعهد الوطني للإحصاء في تونس (رسمي).

التصنيف الائتماني


وفي الوقت الذي تسعى فيه حكومة بودن إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي بشأن قرض تعول عليه البلاد من أجل فتح الأبواب أمام التمويل الأجنبي، فقد أعلنت وكالة موديز للتصنيف الائتماني، عن خفض التصنيف الائتماني لتونس إلى CAA2 مع نظرة مستقبلية سلبية.

وكانت موديز قد صنفت تونس ضمن المستوى B2 مع نظرة مستقبلية مستقرة في شباط/ فبراير 2020، بعد أن كانت نظرة مستقبلية سلبية قبل إجراء الانتخابات التشريعية في تشرين الأول/ أكتوبر 2019.

وعقب الإجراءات الاستثنائية المعلنة في 25 تموز/ يوليو 2021، خفضت الوكالة تصنيف تونس مرة أخرى إلى Caa1 مع نظرة مستقبلية سلبية، قبل أن تضعه تحت المراجعة مع إمكانية التخفيض في أيلول/ سبتمبر الماضي.

وليلة الدور الثاني من الانتخابات التشريعية، خفضت وكالة موديز، تصنيف تونس إلى درجة Caa2، التي تعني تعرض الحكومة والبنك المركزي إلى مخاطر مالية عالية، وهي نفس الدرجة التي منحتها الوكالة العالمية للبنان قبل شهر واحد من إعلانه التخلف عن سداد ديونه في آذار/ مارس 2020.

وقالت الوكالة في تقريرها حول تونس إن خفض التصنيف الائتماني "يعود إلى عدم وجود تمويل شامل حتى الآن لتلبية احتياجات الحكومة ما يزيد من مخاطر التخلف عن السداد"، مضيفة أن عدم تأمين برنامج تمويلي جديد من قبل صندوق النقد الدولي على الرغم من التوصل إلى اتفاق إطاري مع تونس في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، أدى إلى تفاقم وضع التمويل الصعب وزيادة الضغوط على احتياطي النقد الأجنبي للبلاد.

الديون الخارجية


وتثبت أرقام البنك المركزي التونسي ارتفاعا ملحوظا في الديون الخارجية في الأشهر التي تلت 25 تموز/ يوليو 2021، حيث ارتفعت بنسبة 8 بالمئة خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي، ليبلغ 128.21 مليار دينار (حوالي 42 مليار دولار)، وهو رقم قياسي لم تسجله البلاد من قبل، حيث تجاوزت الديون عتبة الـ82 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن كانت في حدود 67.9 بالمئة عام 2019.

وقبل فترة كورونا، التي تزامنت مع تولي الفخفاخ رئاسة الوزراء، بلغت الديون الخارجية لتونس حاجز الـ110 مليار دينار (حوالي 34 مليار دولار)، فيما كانت في حدود 33.9 مليار دولار سنة 2019.

احتياطي النقد الأجنبي

وأظهرت بيانات البنك المركزي التونسي تراجعا في احتياطي البلاد من العملة الصعبة منذ 25 تموز/ يوليو 2021، بعد أن سجل ارتفاعا نهاية 2019، حيث بلغ احتياطي تونس من العملة الصعبة مع نهاية العام، الذي أجريت فيه الانتخابات التشريعية، 19.5 مليار دينار تونسي ما يعادل نحو 7 مليارات دولار أمريكي، بزيادة 38.5 بالمئة عن العام السابق حيث كان بنحو 14 مليار دينار تونسي ما يعادل 5 مليارات دولار، ويكفي لتغطية واردات تونس لـ109 أيام.

وخلال عام 2020، الذي عرف تشكيل حكومتين بمشاركة "حركة النهضة"، بلغ  احتياطي النقد الأجنبي لتونس نحو 23 مليار دينار (8.16 مليار دولار) خلال عام 2020، ما يقابل 162يوم توريد.

في المقابل، تراجع احتياطي النقد الأجنبي لتونس بنسبة 9.5 بالمئة بعد 25 تموز/ يوليو 2021، إلى 20.9 مليار دينار (7.4 مليار دولار)، ما يكفي واردات تونس لمدة 127 يوم.

وفي آخر تحديث نشره البنك المركزي الإثنين، تراجع احتياطي تونس من العملة الصعبة، ليبلغ 97 يوم توريد، أي ما يُمثل 22.343 مليون دينار (حوالي 7.33 مليون دولار)، مقابل 134 يوم توريد من نفس الفترة من السنة الماضية.

العملة


في المقابل، ظل سعر صرف الدولار مقابل الدينار التونسي ثابتا نسبيا، رغم انخفاض احتياطي العملة الصعبة وارتفاع معدلات التضخم، وهو ما يُفسر بالسياسة النقدية المرتبطة بالبنك المركزي.

وبشأن ذلك، قال الخبير الاقتصادي خبير الشكندالي إن البنك المركزي التونسي يعتمد سياسة صرف مرنة للغاية، لكنه يتداخل في سوق الصرف عبر احتياطي العملة الصعبة، ما جعل الدينار التونسي يتماسك نسبيا.

وشدد في تصريح لـ"عربي21"، على أنه "رغم ذلك، مازال الدينار التونسي يتراجع بصورة استمرارية حيث يتآكل احتياطي العملة الصعبة، ما سيقلص من قدرة البنك المركزي على التدخل في سوق الصرف".

وعقب إجراء الانتخابات التشريعية في 2019، بلغ سعر صرف الدولار الواحد، 2.8 دينار تونسي، قبل أن ينخفض إلى حدود 2.66 بنهاية عام 2020.

وبعد الإجراءات الاستثنائية، ارتفعت قيمة الدولار لتبلغ 3.3 دينار للدولار الواحد في أيلول/ سبتمبر 2022، كأعلى مستوى في تاريخ البلاد، قبل أن يتراجع إلى حدود 3 مع مطلع العام الجاري.

البطالة


من جهتها، عرفت معدلات البطالة في تونس ارتفاعا مهما في الفترة التي لحقت إعلان التدابير الاستثنائية، قبل أن تتراجع نسبيا خلال الفترة الماضية، رغم قرار الحكومة بوقف الانتداب في الوظيفة العمومية، استجابة لطلب صندوق النقد الدولي.

وبلغت نسبة البطالة 14.9 بالمئة عند إجراء انتخابات 2019، لترتفع إلى 18 بالمئة خلال شهر تموز/ يوليو 2020، متأثرة بأزمة كورونا، لتنخفض إلى حدود 17.4 مع نهاية العام ذاته.

وعقب الإعلان عن التدابير الاستثنائية، بلغت نسبة البطالة مستوى قياسيا عند 18.4 بالمئة، قبل أن تنخفض إلى 15.3 بالمئة في شهر تموز/ يوليو الماضي.

"تضخم هيكلي"


وفي قراءة، قال  الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي رضا الشكندالي إن الوضع الاقتصادي في تونس تميّز بمعدلات تضخم مالية تسارعت منذ آب/ أغسطس 2021، مباشرة بعد الفترة الاستثنائية".

وأضاف في تصريح لـ"عربي21" أن "منذ ذلك الوقت، شهد التضخم ارتفاعا مستمرا، وأصبحت السياسات النقدية الظرفية غير قادرة على مقاومة ارتفاع التضخم، الذي أصبح هيكليا بعد أن يرتفع وينخفض من شهر إلى آخر".

"كما انخرمت التوازنات المالية بشكل كبير جدا، حيث أصبحت الحكومة لا تتمكن إغلاق توازنات الدولة المالية، ما تسبب في حصول فجوة مالية لم تغلق إلى حد الآن في موازنة 2022 وكذلك 2023"، بحسب الخبير الاقتصادي.

وتابع حديثه: "كذلك ارتفعت نسب التداين العمومي بصورة كبيرة، حيث أصبحت الحكومة غير قادرة على تعبئة الموارد الخارجية، وهناك نوع من سوء التعامل مع المؤسسات المالية الدولية المانحة".

وفي السياق، قال الشكندالي: "انطلقت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي منذ أكثر من سنة ونصف، لكن الحكومة التونسية لم تنجح في إقناع الصندوق بصرف قرض، حتى بعد الاتفاق مع خبراء الصندوق لم تقدر الحكومة على تعبئة الموارد الأجنبية على شكل مساعدات".

وتسبب ذلك في عجز تجاري تاريخي يُقدر بـ25 مليار دينار (حوالي 8.2 مليار دولار)، ما أدى إلى تآكل احتياطي تونس من العملة الصعبة، حيث أصبحت الحكومة غير قادرة على تأمين متطلبات الحياة الاقتصادية، وما توريد ما يلزم الاقتصاد من مواد أساسية كالوقود والحبوب والسكر والقهوة، بحسب الخبير.

كما تحدث أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية عن تراجع المقدرة الشرائية للمواطن، في ظل معدلات تضخم مرتفعة، وهو ما يفسر صعوبة تزود التونسيين بتوفير ضروريات الحياة اليومية، بما في ذلك الأدوية.

"تراكمات سابقة"


واستدرك بالقول إن "هذا الوضع هو نتيجة لتراكمات سابقة لفترة سابقة كاملة حيث تتحمل المسؤولية بسبب انتهاجها سياسات مالية سيئة، ما أدى إلى ارتفاع معدل الضغط الجبائي إلى 25 بالمئة، فضلا عن اعتماد سياسة مالية حذرة ما تسبب في ارتفاع نسبة الفائدة، وهي تكلفة اضافية للمستثمرين".

وأضاف: "اعتمدت هذه الحكومات سياسة صرف مرنة أدت إلى تراجع كبير في قيمة الدينار التونسي، ما رفع كلفة توريد مواد التجهيز والطاقة، وهو ما انعكس على الأسعار وعلى أرباح المؤسسات، التي أفلس عدد منها، وهاجر البعض الآخر إلى فضاءات أخرى".

تأثير سعيّد وبودن


لكن الرئيس سعيّد أثر على المناخ الاقتصادي، حيث يعتبر أن رجال الأعمال "فاسدون" ويجب محاكمتهم، والتجأ إلى تكوين لجنة للصلح الجزائي، والذي يجبر رجال الأعمال على إرجاع الأموال المنهوبة التي تمتعوا بها زمن زين العابدين بن علي، والذين انتفعوا بقربهم من القادة السياسيين بعد الثورة، بحسب الخبير.

وقال الشكندالي: "سعيّد يلجأ إلى الانفراد بالقرار السياسي واتباع سياسات اقتصادية خاطئة خاصة في علاقة بمقاومة ارتفاع نسبة التضخم، حيث يعتبر أن الداء يكمن في الاحتكار، لكن الاحتكار لا يمثل سوى 10 بالمئة من أزمة التضخم".

وتابع: "لكن سعيّد وبودن يتبعان نفس السياسات الاقتصادية التي أدت إلى هذا الوضع الكارثي في تونس"، معتبرا أن "حكومة بودن هي حكومة إدارية بامتياز، وليس لها رؤية اقتصادية على عكس الحكومات السياسية التي تعرض برامجها عبر الانتخابات وهذا لم يحصل".

وأضاف الخبير الاقتصادي: "الإصلاحات التي قدمتها بودن هي الإصلاحات نفسها التي قدمتها الحكومات السابقة، حيث واصلت بودن في نفس السياسات، بل قررت التسريع في الإصلاحات من خلال الرفع السريع للدعم خلال موازنة 2023، ما سيتسبب في رفع الأسعار".

وعن الانتخابات التشريعية، قال رضا الشكندالي إن المشاركة الضعيفة في الانتخابات عقد وضعية تونس مع صندوق النقد الدولي، حيث كان الصندوق يعتبر أن الرئيس سعيّد ضامن أساسي لتطبيق برنامج الإصلاحات باعتباره هو من يعين الحكومة وله مشروعية كبيرة بعد انتخابه بأكثر من 70 بالمئة من الأصوات في 2019.

لكن نسبة المشاركة الهزيلة في الانتخابات التشريعية، أضعفت منسوب ثقة صندوق النقد الدولي في سعيّد، وأصبحت هناك شكوك بشأن قدرة رئيس الجمهورية على تنزيل برنامج الإصلاحات، خصوصا في ظل غياب التوافق مع الاتحاد العام التونسي للشغل، بحسب الخبير، الذي قال إن المبادرة التي يعدها الاتحاد هي الفرصة الأخيرة لحصول تونس على قرض من صندوق النقد الدولي، داعيا رئيس الجمهورية إلى الجلوس إلى المنظمة الشغيلة.