ما هي المهام التي اضطلع بها العلماء في النظام العثماني؟

عودتنا كتب التاريخ التي تتحدث عن الدولة العثمانية، أن تركز اهتمامها على سلاطين الدولة وصدورها العظام، أو على الفرق العسكرية، هؤلاء جميعاً بالتأكيد هم الذين قادوا وحاربوا وفتحوا وانتصروا وبنوا إمبراطورية، لكن يجب أن لا ننسى أن هناك قادة من نوع آخر كان لهم دور بالغ الأهمية، يتوازى تماماً مع دور السلاطين وجيوشهم، وله فضل كبير في ما وصلت إليه الدولة العثمانية من قوة وشهرة، هؤلاء القادة الآخرون هم المدرسون والعلماء، فهم أيضاً عظماء وهم أيضاً كان لهم دور كبير في الفتوحات والانتصارات.

في هذا السياق، صدر كتاب "العلماء والسلاطين في الدولة العثمانية المُبكرة"، للأستاذ المساعد في جامعة إسطنبول، عبد الرحمن أتّشيل، ترجمة: سعيد آل عبد السلام، ومراجعة وتقديم: د. منذر الحايك، (دمشق، دار صفحات للنشر والتوزيع، ط1، 2022), والكتاب في نسخته الإنكليزية صدر بعنوان (Scholars and Sultans in the Early Modern Ottoman Empire)، عن دار مطبعة جامعة كامبردج عام 2016  (Cambridge University Press).

ينفرد الكتاب بـ"التناول العميق لعلاقة السلاطين ورجال الحكم العثماني بهؤلاء العلماء، وبالمادة العلمية والقوانين المتعلقة بالعلماء والمدرسين والمدارس، وتصنيف العلماء ودرجاتهم وتنظيماتهم، وتحليل انعكاس كل ذلك على  الدولة الفتية".

يحتوي الكتاب الذي يتألف من 222 صفحة على تقديم د. منذر الحايك، ومدخل وثلاثة أجزاء، تتكون من عشرة فصول.

يبدأ الكتاب في التأريخ للعلوم في الدولة العثمانية مع بداية القرن الرابع عشر الميلادي، وهو التوقيت الذي شهد تحول الإمارة العثمانية إلى دولة لها حدود جغرافية ونظم إدارية، وقد افتتح المؤلف كتابه بـ "مدخل"، من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية: "كيف تكيف العثمانيون مع الظروف العالمية والإقليمية والعقائدية والسـياسية المتقلبة التي شكلت عالمهم خلال هذه الفترة؟ وما هي المهام التي اضطلع بها العلماء في النظام العثماني في أوقات مختلفة خلال هذه الفترة الطويلة؟ وهل ساعد العلماء العثمانيين في الحفاظ على نفوذهم؟ وهل مارس العلماء سلطتهم بشكل مستقل عن الحكومة؟ وما هي السياسات التي اعتمدها العثمانيون لاستمالة العلماء إلى جانبهم؟ وكيف تغيرت أدوار العلماء ومواقفهم في النظام العثماني؟".

هذا المدخل مهد الطريق للدخول في أجواء الكتاب، الذي صنفه المؤلف في ثلاثة أجزاء، يتناول كل منها فترة محددة في تاريخ العلماء والمؤسسات العلمية في الأراضي العثمانية، بالإضافة إلى العلاقة بينهما والحكومة العثمانية.

خصص أتّشيل الجزء الأول بعنوان منها للعلماء في الدولة العثمانية المُبكرة (1300 ـ 1453)، حيث يتناول الفصل الأول بعنوان "أوضاع العثمانيين في الأناضول: مرحلة ما بعد المغول"، التحول السياسي في الأناضول بعد تقدم المغول في القرن الثالث عشر، ويناقش كيفيه تعامل العثمانيين في ظل الفرص والحدود الزمانية. بينما يستكشف الفصل الثاني بعنوان "المدارس والعلماء في الدولة العثمانية"، الجهود العثمانية لجذب العلماء إلى أراضيهم، وتنوع طبيعة العلاقات التي نشأت بين العلماء والحكومة العثمانية.

يركز المؤلف في الجزء الثاني، "تشكيل التسلسل الهرمي"، على الفترة التكوينية للتسلسل الهرمي للعلماء البيروقراطيين (1453- 1530)، في حين يبحث الفصل الثالث "تقديم الإمبراطورية العثمانية"، في تحول المشروع السياسي العثماني من إمارة بعد المغول إلى إمبراطورية حديثة مبكرة، ويناقش الأهمية الفعلية والرمزية لغزو إسطنبول، أما الفصل الرابع "العلماء في بيروقراطية الإمبراطورية الناشئة في عهد محمد الثاني"، يتناول نقاط التحول البارزة في عهد محمد الثاني (1444- 1446 و 1451- 1481)، وبايزيد الثاني (1481- 1512)، وسليم الأول (1512- 1520)، وخلال العقد الأول من حكم سليمان.

ويُركز أتّشيل على دراسة السياسات المعمارية والقانونية لمحمد الثاني، ودور العلماء البيروقراطيين في الإدارة الإمبريالية وموقفهم من الحكم خلال فترة حكمه.

ويستكشف الفصل الخامس "العلماء البيروقراطيون يدركون قوتهم"، التطورات المتعلقة بالعلماء البيروقراطيين في تشكيل الخطاب السياسي والإيديولوجي، فضلاً عن وعيهم المتنامي بصفتهم طبقة مهنية مميزة خلال هذه الفترة.

ويتناول الجزء الثالث "توطيد التسلسل الهرمي" فترة توطيد التسلسل الهرمي للعلماء البيروقراطيين (1530- 1600)، حيث يؤكد الفصل السادس "التغييرات في بؤرة الاهتمام"،على التحول في إدارة مشروع الإمبراطورية العثمانية والتركيز المتزايد على التوحيد الداخلي على حساب التوسع الإقليمي، ابتداء من ثلاثينيات القرن السادس عشر.

يمثل هذا الكتاب نتائج البحث حول تشكيل البيروقراطية المدنية وتطورها وتعقيدها المتزايد في الإمبراطورية العثمانية من خلال دراسة التغيرات في علاقة العلماء بالسلالة العثمانية ومشروعها لتشكيل الدولة خلال الفترة الحديثة المبكرة.

ويناقش هذا الفصل الزيادة في عدد المسؤولين المدنيين والعسكريين في المركز والمقاطعات، والنشاط القوي للمسوحات السكانية لأغراض عسكرية وضريبية، وإدخال إجراءات بيروقراطية جديدة، و تركيز الأسرة الحاكمة في إسطنبول، وتشكيل قواعد جديدة، و تنظيم القوانين وتدوينها باعتبارها عناصر للتأكيد الجديد على الكفاءة الإدارية. تبحث الفصول المتبقية من السابع إلى العاشر، والتي صنفت موضوعياً، في جوانب مختلفة من تطور الطبقة العلمية البيروقراطية خلال الفترة (1530 ـ 1600).

يتناول المؤلف في الفصل السابع "صعود العلماء البيروقراطيين ذوي المنزلة الرفيعة (الموالي)"، القوة المتزايدة للعلماء رفيعي المقام (الموالي) في إدارة التسلسل الهرمي والحكم الامبراطوري العام. و يشرح الفصل الثامن "نمو وتوسع نطاق التسلسل الهرمي" تفاصيل تزايد المناصب التي يمكن للعلماء البيروقراطيين العمل بها من خلال بناء مدارس جديدة، وإدماج المدارس القديمة في التسلسل الهرمي، وتوسيع الإدارة القضائية المركزية.

يشير هذا الفصل أي الاهتمام المتزايد للمسؤولين ومؤسسي المدارس والمهندسين المعماريين والعلماء البيروقراطيين بتحديد رتبة كل منصب داخل التسلسل الهرمي. يتناول الفصل التاسع "قواعد وأنماط التمايز بين العلماء البيروقراطيين" مسألة التمايز المهني بين العلماء البيروقراطيين، ويبحث في المعرفة والكفاءة المهنية والمحسوبية والوسائل الاقتصادية باعتبارها عوامل تؤثر على نجاح العلماء البيروقراطيين في الحياة المهنية.

ويتناول الفصل العاشر "دمج العلماء البيروقراطيين في مسارات وظيفية متعددة" المسارات المهنية الأربعة المختلفة التي يمكن للعلماء اتباعها.

وأخيراً، يمثل هذا الكتاب نتائج البحث حول تشكيل البيروقراطية المدنية وتطورها وتعقيدها المتزايد في الإمبراطورية العثمانية من خلال دراسة التغيرات في علاقة العلماء بالسلالة العثمانية ومشروعها لتشكيل الدولة خلال الفترة الحديثة المبكرة.

*كاتِب وباحِث فلسطيني