أفكَار

مونديال قطر.. صراع الهويات على مذبح الإيديولوجيا والهيمنة الغربية

أمير قطر: أوفينا بوعدنا بتنظيم مونديال استثنائي- (الأناضول)

                                                           صالح عطية

انتهى مونديال قطر 2022، بفوز الأرجنتين على فرنسا، في أعقاب مباراة مجنونة، تابعها نحو 3.5 مليارات من البشر في أرجاء المعمورة.

وصف هذا المونديال، بــ "الاستثنائي"، و"التاريخي"، و"غير المسبوق"، في سجلات المونديال بنسخه الواحدة والعشرين، محطما أرقاما قياسية عديدة، تنظيميا وكرويا، ومن حيث الاستثمار القطري في المونديال.

وبصرف النظر عن هذه المنجزات المهمة جدّا على الصعيد الرياضي، وما له علاقة باللعبة وحيثياتها المختلفة، فإنّ هذا المونديال، حقق مكاسب شديدة الأهمية، ستظل ترافق النسخ القادمة من المونديال، وتشكل مجال مقارنة معه، بعد أن تحوّل كأس العالم في قطر، إلى ما يمكن أن نسميه بــ "الأنموذج" في التعاطي مع هذا الحدث الكروي العالمي، الأبرز على الصعيد الكوني..

حرصت القيادة القطرية، بذكاء لافت، على أن تجعل من المونديال، لوحة فسيفسائية رائعة، ثقافيا وسياسيا واجتماعيا وأخلاقيا، بالإضافة إلى النجاح التقني المبهر، في أن توجّه رسائل عديدة، حاملة لمضامين، ومحمّلة بقيم معرفية وفكرية وحضارية، وخلفية جغرا ــ سياسية، مدركة للتحولات من حولها، ومستوعبة للتطورات الدولية، وبقدرة فائقة على التعاطي معها، بكامل الأريحية، ومن دون عقد، ثقافية أو حضارية، وبخطاب شفاف، بعيدا عن تلك المنمّقات اللغوية، التي مجّتها أذاننا من الخطاب الرسمي العربي، والإستخدامات الدبلوماسية الباردة، التي دللت الأحداث في عالمنا العربي، خاصة، وعلى الصعيد الدولي عامة، تهافتها وخواءها المضموني، وضعف حلقاتها السياسية والجيو ـ استراتيجية، فضلا عن قدرتها الإقناعية الباهتة.

الاستثمار... بمنطق جديد.. وفلسفة مغايرة

كرّس مونديال قطر، فكرة جوهرية، وعلى درجة كبيرة من الأهمية، وهي أنّ الإمكانات المالية، لا تكفي لوحدها للنجاح، إذا لم تكن مقترنة بفكر ورؤية وتصوّر، ويثوي خلفها هدف ومعنى ومقصد..

إنّ الاستثمارات، ليست غاية في حدّ ذاتها، إنما هي أداة لتطوير المجتمعات والشعوب، وهي قناة التواصل العلائقي بالدول والتجارب والأفكار والحضارات.. لذلك كان الاستثمار القطري في المونديال، أوسع من الخيال، على صعيد الأرقام (220 مليار دولار)، لكنّه أكثر أفقا من حيث النتائج والمكاسب والمنجزات..

لقد سقطت بكامل الوضوح، فكرة أن الأموال لوحدها تصنع أمما، وتعطي زخما للدول، ما لم تكن خلفها قيادات مطّلعة، ومتطلّعة للمستقبل، وتحرص على أن تستخدم ثرواتها بشراكات منتجة، وعلاقات نديّة أفقية، من أجل تنمية دولها ومجتمعاتها، ونحت مكانة لها في التاريخ، ضمن سياق مشروع، بدت ملامحه ظاهرة وواضحة، من خلال حيثيات وتقلبات المونديال القطري..

إنّ الاستثمارات الضخمة، إذا لم تحضنها رؤية وهدف وغاية، تظل أرقاما في معادلات البنوك وأوساط المال والأعمال، ومن ثمّ حدث عابر، ولحظة زمنية ستمرّ مرّ السحاب، وهو ما وعته قطر، واشتغلت عليه قيادة هذا البلد، بكامل الهدوء، في إطار قناعة بدت واضحة لكل ذي رأي حصيف وموضوعي، بأنّ الثروات، جزء من صناعة المستقبل، وليست مجرّد صناديق ومشاريع وعقارات وبناءات وقصور مشيّدة، مهما كانت فخامتها، ومهما بلغ مداها عنان السماء.

الدرس القطري الأول من المونديال حينئذ، هو أنّ مناويل التنمية في بلداننا العربية، الفقيرة منها والغنيّة، ليست مجرد حسابات للخزينة والموارد والنفقات والمقابيض والقروض والديون، إنّما ينبغي أن تتجاوز ذلك، إلى وضع رؤية لمشروع اقتصادي بأفق زمني واسع، وتصور للمستقبل، وخلفية حضارية ثقافية، سنأتي عليها لاحقا..
نحن بعد مونديال قطر، بإزاء رؤية جديدة، تتجاوز مقولة "المال قوام الأعمال"، لتقفز بنا باتجاه منطق جديد، ومعادلة مغايرة، قوامها، أنّ المال بلا فكرة أو مشروع، كما الزبد الذي يذهب جفاء، بل هو قشرة خارجية  للتقدم، يتحول إلى جزء من أصنام الحضارة الجديدة، الحضارة التي بنت مقولاتها على ما هو أوهن من بيت العنكبوت..

الدرس القطري الأول من المونديال حينئذ، هو أنّ مناويل التنمية في بلداننا العربية، الفقيرة منها والغنيّة، ليست مجرد حسابات للخزينة والموارد والنفقات والمقابيض والقروض والديون، إنّما ينبغي أن تتجاوز ذلك، إلى وضع رؤية لمشروع اقتصادي بأفق زمني واسع، وتصور للمستقبل، وخلفية حضارية ثقافية، سنأتي عليها لاحقا..

كنت زرت قطر في العام 2001، وزرتها في العام 2018، وبين الزيارة الأولى والأخيرة، كمن وضع بلدا جديدا، مكان فضاء سكاني قديم، وكأنّ المرء بإزاء عملية سحرية بكل معنى الكلمة، لكنّ ذلك كلّه، كان يتم في كامل الهدوء، بلا صخب أو ضجيج، وبلا عنتريات، وبثقة في المشروع، وصبر على تفاصيله ومستلزماته ومقتضياته الزمنية والمالية والسياسية، وكلفته الاجتماعية الباهظة..

الأفق الحضاري

لكنّ مونديال الدوحة، كما يحلو للقطريين والعرب أن يسموه، وهم محقون في ذلك، كشف عن عمق ثقافي، وتصور حضاري، للعلاقات بين الدول والشعوب..

شهد المونديال محاولة غربــية يائسة، لفرض نمط مجتمعي وثقافي على قطر، دولة وشعبا، ومن خلف ذلك، الفضاء العربي والإسلامي الواسع..

هل تتقدم الأمم والشعوب بخطوات للخلف؟

هل نشهد بداية أفول الحضارة الغربية، كما توقع بذلك، ألكسيس كاريل، ورجاء غارودي، وفلاسفة (موت الحضارة)، وحتى فوكوياما برؤيته لــ "نهاية التاريخ"؟ هل توقف الغرب عن إنتاج المعنى والفكرة والقيمة والأفق والتقدم، وبات يستدعي أنماط ما قبل التاريخ؟

والحقيقة، ما كان لنا أن نتوصل إلى هذه الاستفهامات، لو أنّ القيادة القطرية، قبلت بما يمكن أن نسمّيه بــ "الاختراق الحضاري"، الذي كان الغرب يرغب في ترسيخه عبر المونديال، من خلال نشر ثقافته تحت عناوين (الحريات)، و(حقوق الإنسان)، و(حرية الضمير)..

لقد أفرغ الغرب هذه المحاميل التاريخية الهامة، من مضامينها الإنسانية والأخلاقية، وألبسها رداء ثقافيا حضاريا، أساء للغرب، تماما مثلما أساء للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واستتباعاته الحقوقية والثقافية والقانونية..
فرضت الدوحة على الجميع، نموذجها العربي الإسلامي، بل ثقافة قطر، ببعدها الخليجي، مفتكّة بذلك، زمام المبادرة في الإقليم، بل زمام القيادة، حتى وإن لم تفصح عن ذلك، احتراما لنواميس العلاقات، والحسابات والمعادلات الجغرا ـ سياسية والاجتماعية والثقافية..

وبالتأكيد لعبت قطر، دورا مركزيا في ذلك، من خلال رفضها الانخراط في هذا النمط المجتمعي المتهالك في فضائه الجغرافي، الذي بات يصدّر لنا أشكالا من الوعي الاجتماعي والممارسات السلوكية الشاذّة، ومشاريع القوانين المغشوشة، التي تسوّق لها نخب مهزوزة في مجتمعاتنا، نخب "ببغائية"، تزعم التحرر والتقدمية والحداثة، وهي ما تزال في عصور ما قبل الحداثة، وفكر الاستعمار الجديد، في أبعاده الثقافية والحضارية..

لقد أصرت قطر على أن تقول "لا"، لهذه العناوين الخالية من أي محمول حضاري أو ثقافي، والتي تنزع نحو "مركزية أوروبية ـ غربية" مستعلية، ما تزال ترى في نفسها، قطب رحى العالم، رغم كل ما أصابها من وهن فكري، واهتزاز اجتماعي، وتخبط  سياسي، وتردد جيو ـ استراتيجي، وفرضت الدوحة على الجميع، نموذجها العربي الإسلامي، بل ثقافة قطر، ببعدها الخليجي، مفتكّة بذلك، زمام المبادرة في الإقليم، بل زمام القيادة، حتى وإن لم تفصح عن ذلك، احتراما لنواميس العلاقات، والحسابات والمعادلات الجغرا ـ سياسية والاجتماعية والثقافية..

ألمانيا... موت "أمّة كروية"

إنّ مشهد وزيرة الداخلية الألمانية، دليل على أنّ الغرب، وألمانيا فيورباخ، وليبنيتز، وكانط، وهابرماس، وماكس فيبر، بالإضافة إلى ماركس، وغيرهم، تئنّ فلسفيا وفكريا، وهي تتخبط مجتمعيا، بل إنها تعطي الدليل الواضح، على أنّ الاقتصاديات المتقدمة (على النحو الذي تمثله ألمانيا بالنسبة للغرب والعالم)، لا تعني بالضرورة، تقدما ثقافيا وحضاريا وأخلاقيا، إذ كم من حضارات أفلست تاريخيا، على الرغم من إمكاناتها المادية الهائلة.

إنّ الحضارات لا تقاس بمحاملها الاقتصادية  الضخمة، بقدر ما ينظر إلى عناوينها ومضامينها الثقافية والحضارية والمعرفية، ولذلك ارتبكت ألمانيا كرويا، واستتبع ذلك نقاشا واسعا في الصحافة الألمانية، التي تحدثت عن "موت أمة كروية"، بما تحمله هذه الكلمات من رمزية ومضمون ثقافي واجتماعي وسياسي وتسويقي في عوالم الاتصال الحديث..

وهنا لا بد من القول، بأن قطر عندما اتخذت هذا الموقف، كانت تهدف إلى وقف هذه "العنجهية الغربية"، التي لاحظها العالم في عيني وقسمات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عند تسليم الكأس للأرجنتين.. وهي عنجهيّة، لم تبدأ في التآكل بفعل الهزيمة فحسب، إنما أيضا، برمزية ذلك، على السياسة الفرنسية والغربية، وبفشل "ماكروني"، في تسويق فرنسا الجديدة، على أعتاب عالم عربي متحوّل ومتقلّب، بين الاستبداد (الذي تسنده فرنسا في أكثر من عاصمة عربية بحرص شديد)، والديمقراطية... بين دولة مستعمرة وغرب مهيمن، من ناحية، وشعوب تائقة للتحرر الحقيقي، من داخل فضائها العربي الإسلامي، ضمن سياق دورة حضارية جديدة، من ناحية أخرى، لعلّ مونديال قطر، أحد إرهاصاتها الأولية والأساسية..
إنّ الحضارات لا تقاس بمحاملها الاقتصادية الضخمة، بقدر ما ينظر إلى عناوينها ومضامينها الثقافية والحضارية والمعرفية،

لا نقول ذلك من باب المجاملة، أو ضمن نوع من التقدير المبالغ فيه، وإنما من منطلق أنّ ما حدث على خلفية هذه المشهدية، سيعكس بالضرورة، آجلا أو عاجلا، نمط تفكير عربي جديد، وأفقا عربيا إسلاميا جديدا أيضا، استبطنته جماهير المونديال من محيطنا، وسوّقت له الأجيال الشابة، من الدوحة بالذات، إلى دولها وشعوبها وسياقاتها الفكرية والثقافية والمجتمعية.

الرموز... والرمزيات

كانت قطر تشتغل على "ماركتينغ الرمزيات"، ذات التأثير على العقول والأذهان والأفكار.. فمشاهد الآذان بأصوات ساحرة، ومؤسسات المساجد (التي أزعجت ذلك الصحفي الفرنسي!!)، التي عبّرت عن زخم عمراني وديني وثقافي لافت، والصلوات التي أقيمت في الساحات العامة، وإعلان المئات إسلامهم من الغرب والشرق، من داخل المونديال القطري بالذات، والعملية التسويقية الذكية، لألوان وأنماط اللباس العربي الإسلامي، والتراث القطري الخليجي، كل ذلك، جعل مونديال قطر، في قلب "صراع الرمزيات"، بما تكتنزه من مضامين ثقافية ودينية وحضارية، تتجاوز المونديال الكروي، لتلمس جانبا من صراع، أو لنقل "تجاذب حضاري"، كانت دولة قطر، شرارته وموطن انطلاقه، ومضمون إعلانه عالميا..

لسنا هنا بصدد صراع إيديولوجي، من النوع الذي تشهده بعض مجتمعاتنا خصوصا بعد ثورات الربيع العربي، حيث كان معول هدم سياسي وثقافي وإعلامي خطير، إنما نحن بإزاء صراع ثقافي، بين نمطي تفكير ومقاربة وخلفية حضارية مختلفتين..

ثمّة حينئذ، رمزية المكان (المسجد ـ سوق واقف ـ العاصمة الدوحة)، ورمزية الصوت / البلاغ / البيان (الآذان)، ورمزية التراث العربي الإسلامي (اللباس الخليجي كأحد عناوينه، ومظاهر الأصالة العربية ممثلة في الخيل والسيف)، ورمزية الأخلاق، ورمزية التواضع القطري، كعنوان لأفق علاقات جديدة بين الدول، ضدّ الهيمنة و"الإستعلاء" الغربي، والرمزية الدينية، بما هي عنوان هوية وثقافة وحضارة (الصلوات)، بالإضافة إلى رمزية الزمان، لأمة في قلب ألفية جديدة، وفي إطار من صراع الحضارات في هزيعه الأخير..

ولعل الدرس القطري المهم في هذا السياق، خصوصا بالنسبة لنخب عربية عديدة، مريضة بعقدها الثقافية، وأزمة انتمائها الحضاري لهذه الأمة، هي أنّ الهويات، جزء من الصراع على المستقبل، إذا ما كانت لديك رؤية وتصور لذلك، وثقة في تراثك وحضارتك، ورغبة في أن تكون شجرة وسط الغابة، وليس مجرد ورقة في شجيرة تعصف بها الريح من كل مكان..

غرب قديم... شرق جديد

لقد حاول الغرب على امتداد العقدين الماضيين، وتحديدا منذ أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، أن يلصق العالم العربي والإسلامي، بمقولات الإرهاب، وما يستتبعه من تخلف اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي، بل حتى الأمني والعسكري، ونشطت ـ تبعا لذلك ـ مصانع السلاح ومخابر السياسة، و"كانتونات" المال والأعمال والمؤسسات المانحة، لإحداث تغيير في العقول والسياسات وأنماط التفكير في السلطة الحاكمة، كما في المجتمعات، لكنّ الرياح الغربية العاتية، اصطدمت بجدران إسمنتية عديدة (رغم تخاذل عديد الحكام العرب)، رفضت أن تكون رقما في معادلات الغرب وحساباته، بل رفضت أن تكون على هامش مخططاته، وجزء من ترتيباته التي باتت ظاهرة للعيان.. وكان المونديال، الفرصة / الإمكانية، لبعث رسالة قويّة، بأنّ العالم العربي، فضاء، بشعوبه وجزء من حكامه الوطنيين، وقسم واسع من نخبه، وجغرافيته، قادر على أن يصنع المعجزات، وأن يقف بشكل نديّ مع الدول الغربية، من حيث الإمكانات المادية واللوجستية، التي يقدّم الغرب نفسه، على أنّه منتجها، والأكثر استيعابا وإبداعا فيها، ومن جهة مخزونه الثقافي، ومكتنزات تراثه الضخمة، وتوفره، قبل ذلك وبعده، على طاقات بشرية، وعقول شابة مثقفة، وواعية بلحظتها التاريخية، تمكنت في نحو 10 سنوات، من إعداد مونديال، لا يليق بالعرب وحدهم، إنما يليق بل يتجاوز الأفق الغربي، حيث لم تقدر البرازيل في 2014، ولا روسيا في 2018، على أن تقدما نسخا مبهرة، على النحو الذي قدمته قطر، في نسخة لن تمحى من ذاكرة عشاق "الجلد المدوّر"، على مرّ التاريخ..

إننا هنا، أمام عملية ولادة جديدة، لجسم عربي حيّ، يرفض أن يكون مجرّد "قطع غيار" في ماكينات الآخرين، إنما هو كيان قادر على أن ينتج ميكانيزماته الخاصة، التي لا تقلّ عالمية وتقدّما وتطوّرا عن النماذج الأخرى، في الشرق والغرب المتقدمين، على حدّ السواء.

ما حدث على خلفية هذه المشهدية، سيعكس بالضرورة، آجلا أو عاجلا، نمط تفكير عربي جديد، وأفقا عربيا إسلاميا جديدا أيضا، استبطنته جماهير المونديال من محيطنا، وسوّقت له الأجيال الشابة، من الدوحة بالذات، إلى دولها وشعوبها وسياقاتها الفكرية والثقافية والمجتمعية.
لقد فرضت قطر، من خلال هذا المونديال، ضرورة إعادة النظر، في مقولات "الأنا" و"الآخر"، و"الغرب المتفوّق" و"الشرق الصاغر والمذعن" لمشيئة مستعمريه، ومحت تلك المقولة، التي طالما شنّفت آذاننا على امتداد عقود طويلة، من أنّ "العرب حديقة خلفية" للغرب، وكرست أمام شعوب الكون بأسره، وضعا جديدا، وهو هذا العالم العربي الناهض، بثقافته وتراثه وهويته الدينية، ووعيه الاجتماعي والسياسي، وتطلعه للمستقبل بأدوات غربية، "مستعربة" إبداعيا، ولكن بأفق أوسع، قوامه، تواضع سياسي، وكبرياء ثقافي، وإصرار على هذه "الأنا" العربية، بكل ما تملك من أدوات معرفية، وثقافة شعبية موغلة في التراث الإنساني، وبعد حضاري يمتدّ لقرون خلت، من دون أيّ عقدة "تثاقف"، أو شعور بــ "الانتقاص الحضاري" للذات، وهو ما يفسّر تلك الحملات الفرنسية والألمانية والبلجيكية والهولندية.. وغيرها، ضدّ قطر وقيادتها وشعبها، قبل أن ترتدّ هذه الحملة على أصحابها، من داخل الحقل الثقافي والسياسي لمنبتها، من خلال تلك الردود لمثقفين وسياسيين غربيين، أدركوا أنّ خطاب "التعالي"، لم يعد مقنعا حتى لأبناء جلدتهم، ممن نقرأ ونسمع انتقاداتهم وتحفظاتهم، بل "قراءاتهم الجديدة"، التي تحاول أن تكون منصفة للعالم العربي والإسلامي، وناقدة لــ "الغرب"، في عملية "كسر" واضحة، لهذا "الاستعلاء الحضاري"، والدعوة ـ بالتالي ـ إلى إعادة النظر في العلاقات بين الأمم..

لن نستفيض كثيرا، في الحديث عن فلاسفة ومثقفين وكتابا غربيين، بشّروا بانهيار الحضارة الغربية، وبنهاية الآلهة الجديدة (الغرب)، وبــ "نهوض الشرق"، لأنّ ذلك سيجعلنا نستطرد بعيدا عن موضوعنا الأساس، وهو ـ بوضوح لا مواربة فيه ـ هذا النجاح القطري في فرض مراجعات هنا، صلب العالم العربي، وهناك، داخل الحقل الغربي، بأنّ "عوالم الشرق"، ليست بالضرورة، عوالم التخلف والارتكان الحضاري، وأنّ "النهوض"، دون القفز على الثوابت والقيم والأخلاق، متوفر ومتاح وممكن، خصوصا مع وجود أجيال جديدة، ولدت مع الإنترنت، وتشرّبت بإبداع، تقنيات التواصل الحديثة بشبكاتها الاجتماعية ومنصاتها المختلفة، وعدد هائل منها، هو جزء من "المطبخ التقني الغربي"، وبالتالي، عندما توفرت له فرصة الإبداع في فضائه الثقافي والحضاري، استطاع أن يبهر ويسحر الألباب، كما يقول كتابنا ومثقفينا القدامى..

إنّ المدخل للحضارة الجديدة، لا يمكن أن يكون تقنيا واقتصاديا فقط، بل هو منظومة ثقافية ومعرفية وقيميّة، تؤسس لذلك، وتقوده، وتشكّل بوصلته الأساسية.. وهذا من أبرز دروس مونديال قطر 2022..

صراعات جيو-استراتيجية وسياسية

على أنّ المنجز القطري، الذي تمظهر في هذا المونديال، لا يقتصر على الجوانب القيميّة والثقافية والحضارية فحسب، إنّما يمتدّ ليشمل ما هو سياسي وجيو ـ استراتيجي، بكل معنى الكلمة..

لقد عانت قطر منذ إعلان الــ "فيفا" في العام 2010، عن تنظيم الدوحة لكأس العالم 2022، أي طيلة 12 عاما كاملة، من ضغوط دولية / سياسية شتّى، وتلقت تهديدات مختلفة، سياسية وأمنية ومالية، وواجهت شكوكا في قدرتها على تنظيم المونديال، ونظّمت حملات تشويه لم تتوقف (حتى الأيام الأخيرة للمونديال بالذات)، وتوّج هذا "الحراك الضاغط"، بحصار اقتصادي ومالي من داخل الإقليم الذي تنتمي إليه (السعودية والإمارات والبحرين ومصر)، ووضعت في عزلة دولية واضحة لكي تتراجع عن تنظيم كأس العالم، واستمرّ هذا الحصار السياسي حتى خلال المونديال، عبر جحافل الاستعلامات العربية والغربية، التي حاولت إخضاع قطر لأجندات وخيارات وسياسات وحسابات، بشكل يجعل منها أداة، ومجرّد رقم في هذا التجمع الكروي العالمي الضخم.

لقد أريد لقطر أن تكون مثل (لطرش في الزفّة)، كما يقول إخوتنا في مصر، لكنّها حرصت على أن تكون صاحبة المحفل العالمي، وأبرز صناع القرار فيه، وهي المحددة للمداخل والبوابات، و"العجين" الأساسي لصناعة الكعكة المونديالية، متجاوزة ضغوط اللوبيات، والغرف الخلفية، وقاعات العمليات، المنتصبة في بقع كثيرة من الخليج والعالم العربي والمسرح الغربي أيضا..

ومن المؤكد، أنّ نجاح قطر في المونديال، قد منحها موقعا ضمن استراتيجيات "الدول الكبرى"، أو "لعبة الأمم"، كما يرغب البعض في تسميتها، وهل يمكن لدول غربية عديدة، أن تقفز مستقبلا فوق "الرقم القطري"، بل هل تقدر دول إقليمية، على تجاوز "المعطى القطري"، ضمن سياسات المنطقة واستراتيجياتها؟

إنّ النجاح القطري في هذا المونديال، قد يفتح الباب أمام الدوحة، لإعادة تركيب العلاقات الدولية والإقليمية، على نحو يجعل لهذا البلد الصغير، جغرافيا وشعبيا، كبيرا بفكر قيادته، وتطلّع نخبته، وطموحات شبابه، وهو ما سوف يوفر لقطر مجالا جديدا لكي تلعب دورا على الصعيد الدولي، أو لنقل هذا هو الإطار الذي ينبغي أن تلعب دورا فيه، وأن تتحرك بموجبه في المستقبل..

إنّ قطر قبل المونديال، ليست قطر بعد كأس العالم 2022، من حيث الحجم والصيت والمكانة الدولية والإقليمية، والفعل الدبلوماسي، والتأثير في السياسة الدولية، وفي نهج صنع القرار العالمي... وذاك من الأفق الأهم الذي سيخلفه المونديال، للدور القطري خلال العقود المقبلة..

*كاتب وإعلامي تونسي