بداية لا بد أن ندرك أن عدم نجاح دعوات التظاهر ليس بالضرورة يعني غياب القدرة
على التغيير أو حتى الفعل الثوري، ومن الضروري أيضا تأكيد أن كل عمل مجتمعي له
تأثير إيجابي على تراكم الفعل الثوري حتى ولو كان محدودا، ولكن عدم نجاح تلك
الدعوات يعني أن هناك خطأ ما يجب علينا التعامل معه ليستمر تراكم الفعل الثوري.
هذا الخطأ قد يكون واحدا من أمرين:
1- رؤيتنا لطبيعة الصراع والعدو ليست صحيحة.
2- استخدام آليات وطرق غير مناسبة، والخلط بين ما هو إعلامي
وسياسي وثوري.
وقبل التوغل في التفاصيل أود أن أروي قصة طريفة ربما لها علاقة ما بحكاية
الثورة المصرية.
علقة موت
كنت في المدرسة الإعدادية وكانت بجوارنا مدرسة ابتدائية، وفي أحد الأيام كنا
نلعب كرة في الشارع بجوار المدرسة الابتدائية بعد انتهاء اليوم الدراسي وسقطت الكرة
داخل المدرسة الابتدائية وأخذها بعض الطلبة ورفضوا إعطاءها لنا. كانوا عددا أكبر
منا ولكننا أكبر عمرا نسبيا، فكان القرار أن استعادة الكرة مسألة كرامة ولن نتحرك
بدونها، ودخلنا في معركة مفاجئة غير مخططة مع الطلبة. والنتيجة كانت علقة موت لنا
وعدم حصولنا على الكرة.
لم نتوقف وقررنا إعادة ترتيب أنفسنا والحصول على الدعم من أصدقائنا في المدرسة
وإعادة المعركة مرة أخرى، وحتى نستعيد كرامتنا المهدورة قررنا أن نخبرهم أن أمامهم
يومين ليعيدوا لنا الكرة وإلا ستكون معركة كبيرة بيننا وبينهم، وبعد يومين تحركنا
بدعم من زملائنا لأرض المعركة أمام المدرسة الابتدائية، إلا أن علقة الموت تكررت
بطريقة أكثر درامية، ولم نعد ندري ماذا نفعل. لقد قرروا عدم مرورنا من أمام مدرستهم
وأصبحنا في أزمة كبيرة فقد هُزمنا تماما، وأصبح اللعب بكرتنا أمام مدرستهم عارا
وإهانة يومية لنا.
الثورة المصرية أو الشعب المصري عدوه هو الدولة المصرية بمؤسساتها، والمهم في هذه المؤسسات هي مؤسسات القوة: الجيش والشرطة (مؤسسات القوة الخشنة)، ثم القضاء والإعلام (مؤسسات القوة الناعمة)، وباقي المؤسسات هي مؤسسات داعمة لهذه القوى لا تؤثر بشكل مباشر في الصراع. ومن الضروري فهم الضوابط الحاكمة لهذه المؤسسات
هذه المؤسسات ربما تصاب بقلق يحفز من قدرتها على الفعل، ولكنها تبقى في مسار العمل طبقا للخطط الموضوعة، ومن يمتلك خططا وخططا بديلة نادرا ما يصاب بالرعب أو الهلع. ونذكر تجربة 2011، عندما انسحبت قوات الشرطة كان انسحابا تكتيكيا وليس انسحاب فزع
4- النظام يرانا
جيدا: حجم المعلومات العلنية التي يستطيع النظام الوصول إليها هائل، وبالتالي قدرته على التنبؤ وعمل الخطط المضادة أكبر مما يتخيل
معظمنا، فالسوشيال ميديا المعلنة ودعوات التظاهر والخطط التنفيذية المعلنة على
الهواء مباشرة؛ كلها تسهل من طرق عمل النظام معها، فالمعلومة في توقيت معين قد
تكون أهم ألف مرة من القوة المادية. ولذلك من المسلّمات والبديهيات أن يكون أي عمل
ثوري بعيدا عن أعين النظام ومفاجئا قدر المستطاع، أما اللعب على المكشوف مع النظام
ربما يكون خطأ كبيرا لأن المستفيد الأكبر منه هو صاحب الأدوات والوسائل الأكثر،
وهو بالتأكيد وبدون شك النظام الحاكم بمصر.
5- النظام شرس وقاتل: لا يعبأ النظام بالقتل ولا يحاسبه أحد، وهذا معلن بمنتهى
الوقاحة، فلم يعد هناك حتى ضوابط أو قوانين مكتوبة قادرة على حماية الشعب من
النظام، لذلك هناك محاذير كبيرة لنزول الجماهير بالشارع، وحتى الكثافة الهائلة لم
تعد رادعا للنظام كما حدث في 2013، فالنظام يتعلم ويطور أدواته في صراعه مع
الجماهير، ونحتاج أن نفعل ذلك أيضا.
لا يعبأ النظام بالقتل ولا يحاسبه أحد، وهذا معلن بمنتهى الوقاحة، فلم يعد هناك حتى ضوابط أو قوانين مكتوبة قادرة على حماية الشعب من النظام، لذلك هناك محاذير كبيرة لنزول الجماهير بالشارع، وحتى الكثافة الهائلة لم تعد رادعا للنظام
كانت محاولة 2011 متغافلة عن طبيعة العسكر والنظام السياسي في مصر واقتنع من أداروها بإمكانية حدوث حل جيد بخسائر محدودة وفي أضيق نطاق، وأعتقد أننا مقتنعون جميعا بفشل ذلك التوجه
2- أزمة العقل السياسي: العقل السياسي الحقيقي هو أكثر العقول القادرة على التعامل مع المتغيرات،
والسياسيون أكثر الناس مهارة على تحقيق أكبر قدر من المكاسب بأقل قدر من التكلفة،
ولذلك عندما يدير الدول سياسيون شرفاء ماهرون تستطيع تحقيق نقلة نوعية كبيرة
للغاية في زمن قياسي. والسؤال: هل ذلك يسبب أزمة، في الظروف الحالية؟ نعم، فهذا
ليس مجال العقل السياسي الذي يحاول اقتناص الفرص لتحسين الأوضاع أو الدخول في مجال
السلطة، فهذه المرحلة تحتاج إلى العقل السياسي الذي يدير معركة كبرى وليس لمن يدير
سلطة مستقل. هذه المعضلة -مع حصار غالب الموجودين بالخارج بأحداث ثورة يناير
و"الانتصارات" التي تحققت- تجعل انتقال العقل السياسي إلى عقلية إدارة
المعركة صعبة للغاية وتمثل أزمة في إنتاج منظومة مقاومة حقيقية.
3- أزمة العقل الإعلامي: لسبب مجهول يعتقد كبار الإعلاميين -وهم في حقيقة الأمر القوة الدافعة الأكبر
في هذه المرحلة للحفاظ على "الصوت الثوري"- أن مجرد استماع لدعوة ما أو
تعليمات ما ستبدأ الجماهير فورا بالتنفيذ، ولا أدري من أين تأتي هذه القناعة، ولكنها
تكررت بشكل أصبح مزعجا للغاية وقد يتحول إلى أن يكون سلبيا. هناك حلقة وصل مفقودة،
ناهيك عن خطورة تحمل الإعلام وحده هذه القرارات، حلقة الوصل المفقودة هي الكوادر
التي تستطيع تحويل التعليمات الثورية إلى حركة جماهيرية من الجماهير، أما انتقال
هذه الإجراءات من القمة إلى الجماهير مباشرة دون وجود كوادر إما أنها لن تحقق
المطلوب أو أنها ستصيب بأضرار بالغة. فكما ذكرنا نحن نتعامل مع كيانات معادية
منظمة، وإن غياب عقل ثوري منظم أو بتعبير أدق عدم قدرته لأسباب كثيرة على التواجد؛
لا يعني أن يقوم طرف آخر بهذا الدور.
ما يمكن أن يقال هو غياب الكوادر يجبرهم على ذلك، حسنا ربما
يكون الرد: دعنا نسير في الطريق الصحيح "الطويل نسبيا" ونبدأ في إعداد
الكوادر، فلا يمكننا الركض بدون قدمين ولا السباحة بلا ذراعين. وغياب القدمين
والذراعين لا يجبرنا على الغرق أو الزحف تحت وابل من الرصاص.
4- أزمة متلازمة الحشد بالميادين: تمثل 25 يناير ونموذجها أزمة حقيقية للكثير من المتواجدين بالخارج، فقد حققت
كما ذكر سابقا نصرا ولو كان زائفا بتضحيات قليلة للغاية، ويسيطر ميدان التحرير أو
الميادين بشكل عام والتجمع فيها على العقل الجمعي، وبالرغم من كارثة آب/ أغسطس
2013 إلا أن الإصرار على نفس التوجه هو نتيجة للأزمات المذكورة سابقا (التغافل-
أزمة العقل السياسي). ولكي نستطيع بناء نموذج مقاومة قادر على الدخول في مواجهة
حقيقية لا بد من الخروج من متلازمة الميادين.
حسنا، يمكننا الآن الحديث عن نتائج هذه الأزمات طيلة السنوات العشر السابقة في
صورة إجراءات "ثورية" حدثت وما زالت تحدث نحتاج لإجراءات منها.
5- التوقف عن الجلد المستمر للذات: هناك فارق بين الانتقاد والرغبة في إنتاج عمل ثوري حقيقي
وبين الجلد المستمر لكل الموجودين في الساحة، والأهم أن عمليات الجلد المستمرة
تأتي من عدم تحقيق إنجاز وكأن الإنجاز سيأتي وحده. بالتأكيد هناك أخطاء وربما
جرائم من البعض، وربما يكون الخط الذي يجب العمل على بنائه هو النظر للمستقبل
وتغيير أنماط المقاومة لتتناسب مع الوضع الحالي والمقدمات السابقة.
6- الخروج من
متلازمة الميادين: طبقا لطبيعة الصراع
الحالي وقدرات العدو؛ لا بد من تغيير تكتيكات الحركة والنضال، ويبدو أنه في حالة
الاستمرار في هذه المتلازمة سنبقى محاصرين داخل دائرة أزمة التغافل.
7- بناء الكوادر: ليكن شغلنا الشاغل خلال العامين القادمين هو كيفية بناء الكوادر الثورية التي
تستطيع نقل الأفكار الثورية إلى فعل ثوري، ونقتنع بأن الفعل الثوري الحقيقي القادر
على التغيير العميق متجاوزين أزمة التغافل لا يمكن أن يتحقق بالجماهير فقط،
فالجماهير لها طاقة هائلة مكبوتة تحت سيف القمع والخوف المبرر، ولن تتفجر تلك
الطاقة دون مجال مناسب لا ينتجه إلا الكوادر.
الجماهير هي صاحبة الحق والقوة الكبرى وهي تحتاج فقط كما ذكرنا لمجال مناسب للفعل الثوري، ولا تلام على تراجعها في حالة عدم توفر هذا المجال. ولا بد من التفريق بين الجماهير والكوادر، ولا يجب تحميل الجمهور عبء الكوادر لأنها لن تستطيع. الجماهير لا تخذلنا بل نحن من نخذلها بالضغط النفسي عليها بدفعها إلى ما لا تستطيع ونخذلها بإهمال صناعة كوادر تقود الجماهير