قضايا وآراء

المقاومة الفلسطينية: نظرة في الاستراتيجيات

1300x600
منذ عشرينيات القرن الماضي، الشعب الفلسطيني منخرط في النضال والمقاومة ضد قوى الاستعمار الغربي عامة وضد القوات البريطانية المنتدبة على فلسطين خاصّة. ومنذ عام 1948، وبعد إقامة "إسرائيل" على أنقاض ما يقرب من 470 قرية فلسطينية دمرتها عصابات الهاجاناة والبلماخ وشتيرن التي ارتكبت عدة مجازر تطهير عرقي في اللد وكفر قاسم ودير ياسين، استمرّ هذا الشعب في مقاومته للاحتلال، متعرضاً لأبشع أنواع الجرائم، صامداً في وجه هذا الوحش الغربي المسمى "إسرائيل" ومتّبعاً عدة أساليب واستراتيجيات شعبية بدون جبهة وطنية موحّدة سياسياً أو عملياتياً.

لقد كانت الثورة التي قادتها حركة فتح في بداية الستينيات بداية الجهد الفلسطيني المُنظم بشكل واضح في وجه الاحتلال، تلك الثورة التي انتهت على أعتاب سلطة فلسطينية بلا سلطة وبدون أفق سياسي استراتيجي واضح، ومحاربةً للقوى الفلسطينية الصاعدة التي رفضت التخلّي عن سلاحها؛ كحماس والجهاد والجبهة الشعبية.

على أية حال، سال حبرٌ كثير ودم في سبيل إيجاد جبهة فلسطينية موحّدة سياسياً وعملياتياً في وجه الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن هذه الجهود اصطدمت دائماً برؤية حركة فتح الداعية للتخلي عن خيار الكفاح المسلح، والاكتفاء بطرق مقاومة ناعمة، أرادتها أحياناً بزارعة الليمون والتفاح كما روّجت على تلفزيونها الرسمي. ما حصل من حالة مقاومة متطوّرة مؤسساتية تشبه الجيوش النظامية في غزة كان نقطة انعطاف مهمة في تاريخ هذا الشعب، وجاء تشكيل الغرفة المشتركة لكافة الأذرع العسكرية العاملة في غزة ليشكل الإضافة التي افتقدتها مقاومة الفلسطينيين على مدار تاريخ هذا الاحتلال الغاشم: الوحدة الميدانية العملياتية، وإلى حدّ بعيد الوحدة في المواقف السياسية التي تخص الاحتلال واستراتيجيات مقاومته لتحرير فلسطين.
ما حصل من حالة مقاومة متطوّرة مؤسساتية تشبه الجيوش النظامية في غزة كان نقطة انعطاف مهمة في تاريخ هذا الشعب، وجاء تشكيل الغرفة المشتركة لكافة الأذرع العسكرية العاملة في غزة ليشكل الإضافة التي افتقدتها مقاومة الفلسطينيين على مدار تاريخ هذا الاحتلال

وبالنظر إلى أسباب ومجريات ونتائج جولة القتال الأخيرة في قطاع غزة، نجد أنّ المقاومة الفلسطينية نجحت إلى حدّ بعيد في إدارة المعركة على الرُغم من مفاجأتها ببدء جيش الاحتلال لعمليات اغتيال في صفوف قيادة سرايا القدس، إذ أنها لم تفقد توازنها، وبقيت حاضرة الذهن في المواجهة، وهذا أوّل إنجازات هذه الجولة: الثبات والردّ المُنسّق المُناسب.

أمّا عند الحديث عن أسباب هذه الجولة، والذي سبب اختلافاً لدى قوى المُقاومة، بدون تأثير واضح على الميدان، فقد رأت حماس أنه من غير المُجدي الذهاب لحربٍ مع الاحتلال لهذا السبب وهو اعتقال الشيخ بسام السعدي، فجيش الاحتلال يعتقل يومياً قيادات من الجهاد وحماس في الضفة، ولا يمكن بدء جولة جديدة مع كل اعتقال. هذا ما لم تقتنع به حركة الجهاد الإسلامي، التي تحضرت للرد من غزة، ففاجأها الاحتلال بعمليات الاغتيال التي جهّز لها مسبقاً، وأخلى غالبية سكان مستوطنات غلاف غزة على مدار أيام قبل بدء الجولة، واستدعى 25 ألف جندي من الاحتياط، في ظل حكومة إسرائيلية انتقالية يتحكم بها المستوى الأمني، وليس لديها ما تخسره للذهاب بعيداً في حربها على قطاع غزة لتحقيق مكاسب انتخابية رخيصة على حساب دماء الأطفال. ومع ذلك، وقفت الغرفة المشتركة متوحدة في الميدان، وتولّت سرايا القدس عمليات الرد محميّة الظهر ميدانياً وإعلامياً، والأهم من ذلك سياسياً.

وهنا يثور في الأذهان استراتيجية مهمة في إدارة الحروب: تفادي فخاخ التفكير الجماعي، إذ أن قيادة قطاع غزة من قبل حركة حماس يواجه مشكلة أن لكل فصيل فلسطيني أجندته المقاومة الخاصة به، وهذا وقت لآخر يخلق ما يشبه التنافس الحزبي في الظهور بمظهر الفصيل القوي أمام إسرائيل. لكنني أعتقد أن إنجاز الغرفة المشتركة خفف بشكل كبير من هذه المعضلة، فقد وفرت هذه الغرفة إحساساً مشتركاً بين كل الفصائل في مواجهة "إسرائيل"، وهو ما ظهر جلياً في تصريحات قادة حركة الجهاد الإسلامي التي أبرزت دور الغرفة المشتركة إلى جانب سرايا القدس.
استراتيجية مهمة في إدارة الحروب: تفادي فخاخ التفكير الجماعي، إذ أن قيادة قطاع غزة من قبل حركة حماس يواجه مشكلة أن لكل فصيل فلسطيني أجندته المقاومة الخاصة به، وهذا وقت لآخر يخلق ما يشبه التنافس الحزبي في الظهور بمظهر الفصيل القوي أمام إسرائيل

برعت حركة المقاومة الإسلامية حماس في إدارة المشهد المُقاوم في قطاع غزة ووظفت عدة استراتيجيات؛ أهمّها برأيي: استراتيجية الفوضى المُسيطر عليها، أو ما تُسمى توزيع القوى. إذ أنّ هناك عنصرين جوهريين في الحرب: السّرعة والتكيّف. فمع وجود الغرفة المُشتركة وأهميتها القصوى كما ذكرت سابقاً، فإنّ تجزيء القوى إلى مجموعات مستقلة يمكنها العمل واتخاذ القرارات دون الرجوع للقيادة؛ أضاف للمقاومة عنصر المراوغة والانطلاق بدون قيود.

أخيراً، باعتقادي أنّ ما جرى في هذه الجولة من المواجهة مع "إسرائيل" أظهر عدة نقاط ضعف في صفوف المقاومة؛ تتمثّل في سهولة وصول الاحتلال لقادة الصف الأول في سرايا القدس واغتيالهم، وعدم تقدير أن الاحتلال قد يبدأ جولة قتال بشكل مفاجئ، مما أفقد المقاومة عنصر المفاجأة الذي تحلت به حرب سيف القدس عام 2021. وهذا يقودنا لضرورة العمل باستراتيجية انتقاء المعارك بعناية، وإعطائها بُعداً وطنياً مقدساً كقضية القدس مثلاً.
باعتقادي أنّ ما جرى في هذه الجولة من المواجهة مع "إسرائيل" أظهر عدة نقاط ضعف في صفوف المقاومة؛ تتمثّل في سهولة وصول الاحتلال لقادة الصف الأول في سرايا القدس واغتيالهم، وعدم تقدير أن الاحتلال قد يبدأ جولة قتال بشكل مفاجئ، مما أفقد المقاومة عنصر المفاجأة الذي تحلت به حرب سيف القدس

فالمقاومة الفلسطينية تملك قدرات وطاقات محدودة لا يمكن لها أن تتجاوزه إلا عن طريق إبعاد الفترة بين حرب وحرب أخرى، فالحصار المفروض يجبر المقاومة على هذه الاستراتيجية التي لم تكن لتلزم لو كانت الحدود مفتوحة مع مصر مثلاً. المقاومة في غزة راشدة واعية متّزنة، شكّلت معادلة ردعٍ لم تستطع "إسرائيل" كسرها وتجاوزها حتى في هذه الجولة المحدودة.

من المهم أحياناً مقايضة المكان بالزمن، أي فضّ الاشتباك بالتراجع أمام عدوّ قوي. هذه ليست علامة ضعف، بل ذكاء استراتيجيا هاما للمستقبل. فحين تقاوم إغراء الردّ على معتدٍ، تشتري لنفسكَ وقتاً ثميناً لتتعافى ولتفكّر، لتكسب مسافة تساعدك رؤية أوضح للصورة الشاملة.

كلامي هذا موجّه لأولئك المؤمنين بالمقاومة فكرة وتطبيقاً وصولاً للتحرير، وليس للنظام العربي الرسمي وأنصاره في فلسطين وخارجها. فعداء المذكورين لمقاومة الشعب الفلسطيني وسعيهم لاجتثاثها واضح لكل ذي لُب، ونقاشهم في اتهامهم للمقاومة بالخذلان والتراجع يعطيهم شرعيّة وأهمية لا يستحقونها أبداً. "وسيعلمُ الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون".
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع