كتب

خيبة الأمل في التنوير العربي.. أين المشكلة؟ (2من2)

توفيق المديني: أصبح الناس في ما يبدو يقبلون الفهم الشائع للعلمانية بأنها ابتعاد الدين عن السياسة

الكتاب: استعصاءات التنوير العربي بين المأزق والمخرج
الكاتب: حسن إبراهيم أحمد
الناشر: اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سلسلة الدراسات 2019 
(307 صفحات من الحجم الوسط).

التنوير وتحديد الهوية


هل نحن عرب أم مسلمون؟ هل نحن أبناء قبائل وعشائر تجمعهم القربى، أم أننا شعوب تجمعهم ثقافات ومصالح وتوجيهات؟ هل للفرد كيانه المستقل أم يستمد كيانه من جماعته القرابية أو العقدية؟ هل ننتمي إلى مجتمع أهلي أم إلى مجتمع مدني؟ هل لدينا إحساس والتزام بالتغيرات التي حدثت لشعوب ما في العالم فتقدمت، أم لا نزال نسير وراء المرياع، شيخ القبيلة أو العشيرة أو الطائفة أو المذهب؟ هل انتقلت قيم الجماعة وتعاضدها القرابى (الشللية) إلى أحزابنا وتنظيماتنا فأعدنا إنتاج قبائلنا وعشارنا داخل هذه الاحزاب فتشرذمت؟

بمعنى أخر هل ننتمي إلى الحداثه وآفاقها فنطور حياتنا بما يتلاءم مع ما يشهده العصر أم نبقى أمناء على الموروث المعوق؟ وفي الحالين ما المصير الذي نلاقيه؟ هل يخرجنا التغير الذي نجريه على أنفسنا بإرادتنا من أصالتنا وانتمائها، أم يعطي هذه الأصالة وهذا الانتماء معاني وأبعاداً جديدة؟ أو هل يبقينا الحفاظ على الموروث ضمن شكله القديم وجوهره المتزمت قادرين على مسايرة الإنسانية، أم لا طموح لنا حينها في التغيير؟

أسئلة كثيرة لا بد أن تحسم الإجابة في الثقافة أولا وفي الحياة العملية كترجمان بهذه الثقافة، عند ذلك يتحدد توجهنا إلى الماضي أم إلى المستقبل. ما نقوله يعود بنا إلى حديثنا حول ثقافة الاختلاف والإحساس به والاعتراف بضرورة الإقرار بما تؤدي إليه. 

يعبر عن ذلك جورج قرم: "الهوية هي ظاهرة اجتماعية بالمعنى القوي للكلمة، وينسى في الأغلب أنها تبنى على تنمية الشعور بالاختلاف مع ما يفترض أنه هوية أخرى. فالهوية تعمل بالاستناد إلى قطب سلبي: رؤية الآخر المختلف إن لم يكن عدوا ".

ويشير ناصيف نصار إلى أن الكائن الذاتي يحمل الماهية من حيث هو نوع ويحمل الهوية من حيث هو فرد وبناء عليه فالهوية تأتي جوابا عن سؤال: من هو؟ في حين أن الماهية تأتي جوابا عن سؤال: ما هو؟ 

يقول الكاتب حسن إبراهيم:" إنها فكرة هامة، فتحديد الهوية أمرٌ مرتبط ٌبالآخر الذي نواجهه، وقوة التعبير الهوية عن ذاتها مرتبط بقوة مواجهة هذا الآخر وضرورتها، وتبرز هذه القوة في الأزمات بين أطراف مختلفة الهوية، فأنا بالنسبة للتركي والفارسي والهندي والأمريكي والفرنسي.. الخ، عربي، وأنا بالنسبة إلى العراقي والمصري والمغربي، سوري، أنا بالنسبة لليهودي والمسيحي، مسلم، الخ. 

قد يختفي التفكير في بعض هذه المسائل حينًا ويبرز أحيانًا، حسب الاحتكاك ودرجته أو التحريض أو المصالح أو المشاعر المتولدة عن مواقف.. الخ. وهنا تبرز أهمية الآخر ووجوده وطريقة هذا الوجود وتعبيره سلمًا أو حربًا، صديقًا أو عدوًا، حيث تتقابل الهوية مع غيرها في حدث ومناخ. وتعبيرها يجدده ذلك (ص 141).

هل من السهل على الفرد أو الجماعة ذلك الإحساس بالانبتات من انتماء سابق كان محددا للوجود والكرامة وحصنا ضد الأخطار؟ إن ذلك يحتاج إلى زمن ممتد إذا كان ممكنا. إنها قضية ثقافية مركبة ومعقدة التخلص من حالة كيانية والانخراط في أخرى وكلاهما تحتاج إلى الوقت والجهد .

يصعب على الشعوب وهي في حالة ضعف الخروج من موروثها المعوق مع حاجتهاإالى ذلك.. فمن أساليب الدفاع عن الذات لدى الإنسان المقهور التمسك بالتقليد. يقول مصطفى حجازي: "الإنسان المتخلف كالمجتمع المتخلف سلفيٌ أساسًا. يتوجه نحو الماضي ويتمسك بالتقاليد والأعراف بدل التصدي للحاضر والتطلع إلى المستقبل. وتزداد السلفية شدة وبروزا بمقدار تخلف المجتمع، وبشكل يتناسب طردا مع درجة القهر التي تمارس على الأنسانية فيه".
 
فالسلفية هي هنا حالة دفاعية عن الوجود وأمثلتها كثيرة قديما وحديثا في مجتمعاتنا العربية، وأحدثها مقاومة الإستعمار الحديث، ويمكن أن يبرز ذلك في مجمل مناطق الوطن العربي التي تعرضت للاستعمار ونشأت فيها مقاومة، حيث شعر الناس بالإستلاب الحضاري من قبل القوى الاستعمارية ،ماجعل الناس يتوجهون نحو التراث لاستعادة التقاليد.
 
التنوير والغطاء العلماني

تأتي العلمانية الحاكمة على هذا النشاط السياسي الفكري ومدى انتسابه إلى التنوير بما أنه قد تحدد مماحكة أو مواجهة مع الفكر أصبح في الكثير من جوانبه راعيًا للظلامية التي أوصلت مجتمعاتنا إلى أن يفرخ فيها الإرهاب مما لم يحسن حسم المعركة لصالح توجهات جديدة في الفكر والواقع تحسن التخلص من الظلامية الموصوفة فهذا أن مقاربة التنوير أملا بانتشاره لن يكون قريبا. فالمساحة التي يحتلها النشاط التنويري يجب أن تنتزع مما شكل إعاقة للتقدم ، و أن تقضم المساحات المعرقلة بطرق غير صدامية ، لتنافي الصدام مع التنوير.

يقول الكاتب حسن إبراهيم:"إننا نثير الجوانب الفكرية المقنعة ، لكنها عند التطبيق تبدو غير ذات فاعلية فهي لم تتأسس جيدا في مجتمعاتنا وقد يظن بعضا من يثيرونها أنها أصبحت جزءا من البنيان الفكري المولد للنشاط السياسي وفي أوطاننا، ونتوهم أنه لا تراجع عنها. حتى إذا جاءت لحظات اختبار وجدنا أن الماضي يعصف بالحاضر، فلا عقلانية، ولا تمكين ديمقراطية للدولة ولا إيمان كافيا بالهوية الوطنية والمواطنة ولا التزام بالقوانين ولا انتصار بالحرية ضد الاستبداد ولا ديمقراطية ولا التنمية وصولا إلى العلمانية كل ذلك لم نجده راسخًا وخابت ظنوننا في أكثر المواقع وتبيين أن يقيننا حديث الخرافة لدى أعداد غير عقلية. فقد كان كل ذلك طلاءً براقًا وخادعًا استخدم للتمويه (ص 176).

 

لم يعد ممكنا في هذا العصر إعادة بناء المجتمعات، أو التفكير ببقائها على أسس لا تراعي حقوق الانسان مثلا، ولا يمكن إغفال نشاطات المجتمع المدني ودور تنظيماته، كما لا يمكن إغفال مراعاة البشرية جمعاء، للعلمانية في بناء مجتمعاتها ومؤسسات دولها، بحيث تبدو تلك التي لا تراعيها وكأنها قد تجاوزها الزمن والتقدم.

 



الدعوة إلى العلمانية لا تسمح في العالم العربي بالتوجه إلى العلمانية الصلبة التي تتشدد في مواقفها التي قد تصل إلى الإلحاد، بل تقتنع بالعلمانية اللينة التي تستبعد الدين عن ميادين السياسة وإدارة الوطن. والدعوة الانفعالية إلى الإلحاد ـ كما مر ـ قد تنتج عن الشعور بالحاجة التغيير السريع العميق وقد تأتي بمردود عكسي فالتشنج قرين الجهل والتسرع في هكذا ميادين.
 
كيف يكون تقدم الأوطان وهي مفتتة إثنيًا وطائفيًا ومذهبيًا، والتفتت أو التنوع بدل أن يكشف عن غنى طالما مثلنا له بأن اللوحة ذات اللون الواحد لا تكون جميلة بل لا يصح أن تكون لوحة أساسا، فالجمال يقتضي التنوع وأن تضج الألوان، لكن بتناسق، كذلك الأوطان.
 
لم يعد ممكنا في هذا العصر إعادة بناء المجتمعات، أو التفكير ببقائها على أسس لا تراعي حقوق الانسان مثلا، ولا يمكن إغفال نشاطات المجتمع المدني ودور تنظيماته، كما لا يمكن إغفال مراعاة البشرية جمعاء، للعلمانية في بناء مجتمعاتها ومؤسسات دولها، بحيث تبدو تلك التي لا تراعيها وكأنها قد تجاوزها الزمن والتقدم.
 
وربما كان كثير من الذين ينتهجون التقدم ويسايرون حراكه في اغلب المجتمعات، لديهم الاستعداد لقبول العلمانية حتى لو كانت مواجهة للدين كما ظهرت الشيوعية في الاتحاد السوفييتي سابقا، أكثر من قبولهم للانشقاق المجتمعات طائفيا واستمداد تفسيرات الوجود من الغيب، وترحيل القضايا المستعصية أو المربكة إلى الأخرى. وكما أن هناك علمانية رافضة للدين، كذلك هناك علمانية حيادية اتجاهه تعتبره قضية شخصية كما في فرنسا، ومجتمعات توفر ـ مع حياديتها اتجاه الدين ـ كل رعاية له دون الانحياز لدين دون الاخر.

في الكثير من المواقف التي يعلنها مثقفون اتجاه العلمانية، يبدو عدم الحسم في الرأي، بل التردد أو التوفيقية وإرادة المصلحة مع كل الجهات والحرص ألا يغضب أي طرف من الرأي. فالعلمانية مطلوبة والدين مطلوب، والعلمانية مرفوضة في الدين والدين مرفوض في العلمانية، وهما مقبولان في مناهج بعضهما أحيانا. هناك من يعترف أن العلمانية لا لزوم لها في الإسلام الذي لم يعرف كنيسة، وهي مشكلة مصطنعة، وينتقدهم محمد عابد الجابري على رؤيتهم، لكنه يعود إلى تبني الرؤية ذاتها. وهكذا يظهر تردد المثقف وحذره وعدم وضوح رؤيته.

 

الدعوة إلى العلمانية لا تسمح في العالم العربي بالتوجه إلى العلمانية الصلبة التي تتشدد في مواقفها التي قد تصل إلى الإلحاد، بل تقتنع بالعلمانية اللينة التي تستبعد الدين عن ميادين السياسة وإدارة الوطن. والدعوة الانفعالية إلى الإلحاد ـ كما مر ـ قد تنتج عن الشعور بالحاجة التغيير السريع العميق وقد تأتي بمردود عكسي فالتشنج قرين الجهل والتسرع في هكذا ميادين.

 


ومن هذه الآراء نلمح عدم التوافق حول القضايا الراهنة والهامة التي يتمحور حولها خطاب الحداثة بين الباحثين العرب، ويعيد الاعتبار في هذا المجال إلى الجيل السابق من التنويريين مثل طه حسين والكواكبي، فخوف طه حسين من استخدام أو توظيف الدين في خدمة شرعية الدولة، واستخدام المقدس استخداما أرضياً وضعيفاً في خدمة الأغراض الدنيوية الدنيئة، دفعه  إلى طلب فصل الدين عن الدولة، وقد مثل الكواكبي في رأيه لحظة من لحظات الشجاعة في الثقافة الوطنية النهضوية سابقة لطه حسين . وهذان النموذجان يمثلان جذرين أساسيين لأي مشروع تنويري عقلاني نقدي يستهدف تغيير العقل والمواقع معاً، كبعدين أو عميقين لثقافتنا الوطنية القديمة .

البحث في فهم العلمانية وتعريفاته يدخل في متاهة، ولقد أصبح الناس فيما يبدو يقبلون الفهم الشائع للعلمانية بأنها ابتعاد الدين عن السياسة. وأصبح مقبولاً أن نفهم بأن المجتمع المدني غير المجتمع الديني، في حين أنه قد يفهم بأنه غير المجتمع العسكري. بل أصبح ممكن القول أن العلمانية قد تقبل التدين غير المتشدد أو غير المتعصب، حتى لو كان هذا موحودًا في دولة ترعاه و تسمى دولة مدنية او علمانية.

فالدولة البريطانية علمانية ومع ذلك فالملك فيها رأس الكنيسة. ولعل المسلمين يأخذون فهمهم و تنويعاتهم للعلمانية من فهم المسيحيين لها والذين اعتمدوا قول المسيح "اعطوا ما لله لله، وما لقيصر لقيصر)" من أجل الفصل بين الدين وبين السياسة. وهنا تبدو ـ كما أرى ـ إحدى أهم مشكلات فكرنا التنويري أو المعاصر، فهو ليس ذا جذور في واقعنا التاريخي، بل هو موجود من فكرنا وواقع مختلف، وما قد يبدو مقبولا في المسيحية عند لحظة من لحظات تطورها، قد لا يكون مقبولا في الإسلام. هنا تبدو الإشارة هامة إلى ضرورة أن تنطلق مشروعاتنا للتحديث والنهضة من ضرورة تغيير واقعنا مع عدم رفض الإفادة من تطور الوعي في الغرب أو غيره. 

 

إقرأ أيضا: خيبة الأمل في التنوير العربي.. أين المشكلة؟ (1من2)