كتاب عربي 21

اتفاقية بودابست 1994.. الحياد لم يكن ليحمي أوكرانيا من العدوان الروسي

1300x600

هناك فرضية متداولة على نطاق واسع مفادها أنّ إعلان أوكرانيا الحياد أو تسليم أسلحتها أو تخلّيها عن سعيها للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي كان من الممكن له أن يجنّبها الاحتلال الروسي، وأنّ السبب الأساسي للمشكلة الحالية لا يكمن في أطماع موسكو التوسّعية في الفضاء الجغرافي التابع للاتحاد السوفييتي سابقاً، وإنما في سياسات الولايات المتّحدة التي أرادت هذا الصدام ودفعت الأوكرانيين إليه دفعاً على حد قولهم. 

لا أريد أن أخوض في تفاصيل الخلفية الفكرية والأيديولوجية لمروّجي هذه الفرضية، والإختزالية التي تطبع أحكامهم، لكن المتابع لهذه المواقف يستطيع أن يلاحظ أنّها مواقف "ضدّية" أي أنّها عادةّ ما تتّخذ بناءً على تموضع أحد الأطراف فيها، وليس بناءً على تقييم الحالة قيد النقاش وما يعتريها من غموض و/ أو تعقيد. بمعنى آخر، إن ذهب هذا الطرف إلى اليمين، فلا بد أن يكون اليسار هو الموقف الصحيح، والعكس بالعكس. 

وغالباً ما يكون "الموقف الضدي" موقفاً غير عقلاني وغير واقعي، وهو يعتمد إلى حد كبير على الشعبوية ويستغل البعد العاطفي الوجداني لدى الآخرين لتبرير أطروحاته. ولأنه موقف لا يعتمد على الوقائع، فإنه غالباً ما يدخل صاحبه في تناقضات كثيرة، فيضطر إلى تبرير نفسه بالتنبؤات تجعله يخطئ الحكم بشكل شبه دائم، حتى يصبح الخطأ أو التناقض ملازماً لصاحبه.

وعودة إلى الإفتراض أعلاه، هل كان الحياد ليحمي أوكرانيا من العدوان الروسي؟ بالطبع لا. كيف لنا أن نعرف ذلك؟ وكيف يمكن لنا أن نكون متأكّدين من مثل هذا الادعاء بهذا الشكل. يوجد سوابق تاريخية تؤكّد هذا الاتجاه، ليس لأنّ التاريخ يعيد نفسه، بل لأنّ السوابق التاريخية مهمّة جداً في عالم اليوم لناحية استخلاص العبر والدروس. العودة إلى العام 1994 تحمل لنا الجواب على التساؤلات السابقة وتقدّم تفسيراً لما يجري اليوم، وربما المآلات المحتملة أيضاً للغزو الروسي لأوكرانيا. 

 

لو كانت أوكرانيا لا تزال تمتلك أسلحتها النووية، هل كانت روسيا لتحتلها وتضم جزءاً من أراضيها وتهدد بتفتيتها ونزع سلاحها وفرض الشروط عليها؟ بالطبع لا. المثير للإهتمام أنّ الضمانات الأمنيّة المقدّمة لأوكرانيا آنذاك كانت تعكس مخاوف وهواجس الأوكرانيين، وتبيّن لهم في نهاية المطاف أنّها صحيحة وأنّ موسكو استغلت الاتفاقية لكسب الوقت فقط لا غير، بانتظار الفرصة المناسبة للإنقضاض على أوكرانيا.

 



في 5 كانون الأول (ديسمبر) من العام 1994، وقّعت أوكرانيا إلى جانب روسيا والولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة مذكرة تفاهم عرفت باسم اتفاقية بودابست، وقد تمّ تسجيلها في الأمم المتّحدة على اعتبار أنّها رُبطت أيضاً بانضمام أوكرانيا إلى معاهدة حظر الانتشار النووي. لقد كانت أوكرانيا آنذاك ثالث أكبر قوّة نووية في العالم بعد روسيا والولايات المتّحدة. وبموجب الاتفاقية، تخلّت كييف عن أسلحتها النووية لروسيا مقابل 6 ضمانات أمنيّة تقدّمها موسكو بالإضافة إلى كل من الولايات المتّحدة وبريطانيا. أربعة من هذه الضمانات ذات أهميّة قصوى في الوضع الحالي، وهي:

ـ احترام كل من روسيا والولايات المتّحدة وبريطانيا استقلال وسيادة أوكرانيا وحدودها المرسومة آنذاك.


ـ تأكيد روسيا والولايات المتّحدة وبريطانيا على التعهدات المتعلقة بالامتناع عن التهديد باستخدام القوة، أو استخدام القوّة ضد الوحدة الجغرافية أو الإستقلال السياسي لأوكرانيا، وأنّ أسلحة هذه الدول لن تستخدم أبداً ضد أوكرانيا إلا في حالة الدفاع عن النفس.

ـ تأكيد التزام روسيا والولايات المتّحدة وبريطانيا بالتخلي عن استخدام الضغط الاقتصادي المُصمّم لتغيير القرار السياسي لاوكرانيا بما يخدم مصالح أي من هذه الأطراف ويتعارض مع حقوقها السيادية.

ـ تعهد كل من روسيا والولايات المتّحدة وبريطانيا بالسعي لإصدار إجراء فوري من قبل مجلس الأمن لمساعدة أوكرانيا إذا وقعت أوكرانيا ضحيّة لعدوان، أو تعرّضت لتهديد بعدوان باستخدام الأسلحة النووية.

لو كانت أوكرانيا لا تزال تمتلك أسلحتها النووية، هل كانت روسيا لتحتلها وتضم جزءاً من أراضيها وتهدد بتفتيتها ونزع سلاحها وفرض الشروط عليها؟ بالطبع لا. المثير للاهتمام أنّ الضمانات الأمنيّة المقدّمة لأوكرانيا آنذاك كانت تعكس مخاوف وهواجس الأوكرانيين، وتبيّن لهم في نهاية المطاف أنّها صحيحة وأنّ موسكو استغلت الاتفاقية لكسب الوقت فقط لا غير، بانتظار الفرصة المناسبة للانقضاض على أوكرانيا.

هذه البنود من اتفاقية بودابست تتضمن إلتزامات روسية واضحة وغير قابلة للتأويل فيما يتعلق بأمن أوكرانيا، وهي مؤشر قوي جداً على إدّعائنا بأنّ أي ضمانات أمنيّة مقدّمة من موسكو لكييف ليست سوى حبر على ورق طالما بقيت روسيا تتمتّع بأفضلية في مواجهة أوكرانيا. ومن هذا المنطلق، يمكن الاستنتاج كذلك أنّ إعلان أوكرانيا الحياد، أو إعلان تخليها عن إمكانية انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي ما كان ليغيّر شيئاً من المعادلة، ذلك أنّ سبب المشكلة يرتبط بروسيا وليس بأوكرانيا.

يكفي للمطّلع أن يراجع نصوص البيانات الروسية الرسمية التي تبرر احتلال أوكرانيا ليعرف أنّ الأمر لا يتعلق برغبة أوكرانيا في الانضمام إلى الناتو، وهي رغبة غير قابلة للتحقّق بأي حال بعد احتلال روسيا شبه جزيرة القرم وضمّها في العام 2014، ذلك أنّ المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي تقول إنّ أي عدوان على أي من أعضاء الحلف يعتبر عدوانا على باقي الأعداء ويتطلب رداً. ضمن أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي يعني وفق هذه المادة أنّ الحلف سيكون عليه الدخول بشكل أوتوماتيكي وفوري في حرب مع روسيا لحماية أوكرانيا وتحرير أراضيها. 

لذلك، فإنه إذا كان هدف بوتين الحقيقي هو منع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو، فقد كان يكفيه المحافظة على الستاتيكو القائم قبل الحرب. وبالرغم من كل ما ذكرناه، يناقش البعض مؤخراً مسألة إعلان أوكرانيا الحياد مقابل ضمانات روسية. إذا ما افترضنا أنّ هذه النقاشات جادة وحقيقيّة، فإنّ هدفها سيكون تأمين سلّم لبوتين للنزول من أعلى الشجرة التي علق في أعلاها. لكن هل ستؤمن أي ضمانات روسية من هذا النوع الأمن لأوكرانيا مستقبلاً؟ أعتقد أنّكم أصبحتم تعلمون الجواب.

Twitter: @alibakeer