كتاب عربي 21

الشعب يريد قضاء مستقلا

1300x600
"الشعب يريد قضاء مستقلا"، هو شعار مركزي رفعه القضاة في التجمع الذي نظموه يوم الخمس الماضي أمام "قصر العدالة"، احتجاجا على قرار الرئيس قيس سعيد حل المجلس الأعلى للقضاء. ومع صدور المرسوم الرئاسي عدد 11 المتعلق بإحداث "المجلس الأعلى المؤقت للقضاء"، تدخل المواجهة بين الطرفين مرحلة جديدة تتسم بالتصعيد، في انتظار معرفة من سيصم دفي هذه المواجهة، ومن سيتراجع ويقبل بالأمر الواقع.

الرئيس سعيد مقتنع بما يفعله، ومستعد أن يواجه العالم كله من أجل تنفيذ قناعاته وتطبيقها داخل تونس، وهو يأمل أيضا أن يرى هذه القناعات تنفذ في دول أخرى، إذ أكد في تصريح أخير أن تونس لا تملك صواريخ عابرة للقارات، ولكنها تملك أفكارا عابرة للحدود. في هذا السياق، يتساءل الكثيرون من أين يستمد قيس سعد كل هذه الثقة وهذا الإصرار على مواصلة السير في نفس الطريق، رغم اتساع الأطراف المختلفة معه والمناهضة لأفكاره وسياساته؟

قوته في إيمانه بأفكاره، هو يؤمن بما يقول، ويعتقد بأن ما يفعله هو الإصلاح بعينه، ويذهب إلى حد تأكيد كونه مستعدا لكي "يستشهد" من أجل هذه الأفكار والرؤى. هي من وجهة نظره "رسالة" و"عهد" بينه وبين ربه، وبينه وبين الشعب الذي "فوضه" منذ انتخابات 2019 لإنجاز هذه "المهمة التاريخية" مهما كان الثمن.
ينسف مسارا ديمقراطيا بأكمله، لمجرد اعتقاده بوجود انحراف ما في إحدى حلقات هذا المسار. الحل بالنسبة إليه يكون في الحل إن لزم الأمر، أي إلغاء المسار بكل مؤسساته ومكاسبه، سواء أرضيت بذلك بقية الأطراف الشريكة في الوطن أم اعترضت، ومن لا يرضى بذلك عليه أن يشرب من ماء البحر

قيس سعيد نموذج مختلف، أو حالة استثنائية بين حكام العالم، بمن فيهم "الشعبويون" الذين تعددت أسماؤهم ولمعت صورهم في أكثر من بلد. لا يؤمن بموازين القوى محليا ودوليا، ويعتبر الأفكار مقدمة على المصالح، وأن رئيس الدولة بحكم "شرعيته الانتخابية" بإمكانه أن ينسف مسارا ديمقراطيا بأكمله، لمجرد اعتقاده بوجود انحراف ما في إحدى حلقات هذا المسار. الحل بالنسبة إليه يكون في الحل إن لزم الأمر، أي إلغاء المسار بكل مؤسساته ومكاسبه، سواء أرضيت بذلك بقية الأطراف الشريكة في الوطن أم اعترضت، ومن لا يرضى بذلك عليه أن يشرب من ماء البحر.

عندما تولى الرئيس سعيد رئاسة الجمهورية، كان التونسيون مقسمين، وكانوا يأملون في كونه سيضمد جراحهم، ويرفع من معنوياتهم ويعيد لهم التفاؤل، ويزيد من دخلهم، وينقذهم من الغلاء والفقر والبطالة. لكن بعد ستة أشهر من الانفراد بالسلطة، بدأ يتسرب الشك إلى نفوسهم، لأنهم ازدادوا انقساما وفقرا وبطالة وإحساسا بالضياع، كما ارتفع منسوب الخوف عندهم من المستقبل، إذ كل المؤشرات السلبية تفاقمت بشكل مدهش ومثير للقلق. هو يقر بذلك، لكنه يعتبر أن القرارات التي يتخذها، بما في ذلك القرار الأخير المتعلق بالقضاء، ستساعد على استرداد الحقوق ومعالجة كل المشاكل التي يعاني منها الشعب.

لا خلاف حول عمق الأزمة التي تعاني منها المنظومة القضائية، وأنها في حاجة ملحة وعاجلة لإصلاحات جذرية وهيكلية. لكن، هل يصح أن يتحقق ذلك عبر وضع القضاء تحت سلطة الرئيس، وتمكينه من تعيين القضاة، والاعتراض على تسمية آخرين، والتدخل في معاقبتهم وترقياتهم، ومن ثم إعادتهم إلى المربع السابق للثورة، مع اتخاذ إجراءات أخرى قادمة في ظل الإجراءات الاستثنائية سارية المفعول منذ 25 تموز/ يوليو الماضي؟

ما الذي سيحصل الآن بعد أن أصدر الرئيس مرسومه؟ يجيب عن هذا السؤال القضاة أنفسهم من مواقعهم المختلفة. يقول رئيس جمعية القضاة الشبان مراد المسعودي؛ إن زملاءه يتصدون للهيكل الجديد الذي عينه رئيس الجمهورية الذي لا يملك سلطة دستورية ولا يملك نصا قانونيا لإرساء "هيئة وقتية". أما رئيس جمعية القضاة التونسي أنس الحمايدي، فقد اعتبر المرسوم الجديد "كارثة"، وأن الجمعية ستتدارس أشكال التصدي له. أما اتحاد القضاة الإداريين، فقد دعا من جهته إلى مقاطعة المجلس الجديد.
الأخطر من كل ذلك، أن ما ستكشفه الأيام القادمة هو توجيه القضاء نحو محاربة الخصوم السياسيين، وفي مقدمتهم قادة حركة النهضة

تدل هذه العينات على أن الأسرة القضائية تتجه نحو تعميق الانقسام بين مكوناتها، وأن الهيكل المنَصّب بقرار رئاسي ستواجهه صعوبات شتى، وستقاومه أطراف متعددة، وهو ما يجعل القضاة الذين قد يقبلون الانخراط في هذه اللعبة تحت وطأة ضغوط جهات متعددة. ويمكن في هذا السياق أن يلجأ رئيس الدولة إلى معاقبة العشرات إن لم نقل المئات من القضاة، سواء من خلال نقل تعسفية أو التجميد والإحالة على مجلس التأديب، عندها سيتورط الرئيس في نفس الممارسات التي كان يلجأ إليها الرئيس ابن علي سابقا للتحكم في القضاة وفي المؤسسة القضائية. كما سيعاقب أيضا كل من يفكر في اللجوء إلى الإضراب، بحكم أن المرسوم الجديد منع القضاة من ذلك، واعتبره "جريمة". وبذلك يؤكد رئيس الدولة أن القضاء وظيفة وليس سلطة، وهناك خوف من احتمال حصول مجزرة في صفوف القضاة تكون شبيهة بتلك التي حصلت في مصر سابقا.

الأخطر من كل ذلك، أن ما ستكشفه الأيام القادمة هو توجيه القضاء نحو محاربة الخصوم السياسيين، وفي مقدمتهم قادة حركة النهضة. يتم ذلك من خلال ملفات عديدة، حسم القضاء في بعضها، والبعض الآخر لا يزال الجدل حولها مستمرا، من هذه الملفات "التنظيم السري"، و"التسفير" و"الاغتيالات السياسية". ولا شك في أن هذه الملفات خطيرة ولا بد من الحسم فيها وكشف جميع ملابساتها، وتحديد هوية من يقف وراءها. لكن الأهم من ذلك، هو ضمان الشفافية وتحقيق العدل بعيدا عن الحسابات والضغوط السياسية والأيديولوجية.