يمكن تعريف
الأيديولوجيا بأنها مجموعة الأفكار أو النظريات التي جاءت من قبل مؤسسيها لتوصيف المشكلات، ووضع تصورات وحلول لذلك الواقع القائم.
أهم الأيديولوجيات الحديثة التي نشأت في العصر الحديث في العالم العربي منذ منتصف القرن الماضي كانت الأيديولوجيا القومية؛ التي صاغت طريق الحل والخلاص على أساس العرق والقومية العربية، ووصفت حالة التخلف والنكوص وقدمت الحلول لذلك، من خلال إحياء فكرة القومية والعرق العربي، وبعد ذلك جعلت كل الحلول في الوحدة الجغرافية وإقامة الإمبراطورية العربية الكبرى، لكن هذه الأيديولوجيا فشلت في حل الواقع وتحولت لتكون جزءا كبيرا من المشكلة.
تمددت في الثلث الأخير من القرن الماضي وبداية القرن الحالي الأيديولوجيا الإسلامية التي شخصت الواقع ورأت أن التخلف والنكوص راجع إلى ابتعاد الناس عن دينها، وغياب قيام دولة دينية للمسلمين، وتم تضخيم مفهوم الدولة حتى أُدخل في أبواب العقائد للناس وأصبح جزءا من دين الناس ومعتقداتهم. ووصفت الحل بالذهاب إلى الماضوية التاريخية واستدعاء التاريخ وإحياء هذا التاريخ لتأسيس إمبراطورية إسلامية عظمى.
ليس من الخطأ أن تقوم فكرة توصيف المشكلة ووضع الحلول على أيديولوجيا قومية عرقية أو دينية طائفية، لكن المشكلة في أن تصبح الأفكار والنظريات
الإصلاحية بقرة مقدسة يمنع المساس بها، وتصبح أي حالة اقتراب من تطويرها أو نقدها اعتداء وخيانة للأسس القومية العرقية أو تجرؤاً على نصوص الدين ومعتقدات الناس في نظر أصحابها، وبذلك تكون الأيديولوجيا قد أصبحت جزءا معقدا من المشكلة لا جزءا من الحل.
كثيرة هي الأسباب التي تدعو أصحاب الأيديولوجيا إلى التعصب، ولكن أهم هذه الأسباب تأتي:
- افتقار تلك الأيديولوجيات في محاضنها التنظيمية إلى النخب المفكرة التي تعمل دائما على التحديث والتطوير، وقد يعود هذا الفقر إلى سبب رئيس أن غلاة الأيديولوجيا ومحيطها التنظيمي يعادون ويرفضون كل من يطالب بالتطوير والتحديث والنقد الذاتي، لذلك تتحول النخب المفكرة في داخل هذه التنظيمات إلى البحث عن السلامة التنظيمية، والانتقال من مربع التحديث والنقد والتطوير إلى مربع التقديس طمعا من بعضهم بالحظوة التنظيمية والمزيد من النفوذ والمصالح داخل التنظيمات، فتنصب جهودهم على تعميق فكرة الإيمان بتلك الأفكار وتعزيز قناعة الأفراد بمفرداتها، مما يجلب لهم مزيدا من النفوذ والاحترام والرمزية داخل التنظيمات، ومنهم من يؤثر السلامة التنظيمية فيسكت أو يغادر بصمت، وهذا يعمق حالة الفقر
الفكري داخل الأيديولوجيات وتنظيماتها.
- السبب الآخر للتعصب أن بعض الأيديولوجيا تصمم بأسلوب لا يسمح لمن يأتي من بعد منظّرها الأول بتطويرها أو نقدها، وهذه الحالة توجد في البيئات الأيديولوجية الدينية التي تكون قد كسيت بنصوص مقدسة واندمجت لتصبح جزءا من أديان الأتباع ومعتقداتهم، فكل شيء يمكن تطويره إلا المقدس فهو يملك مهابة في نفوس الأتباع تمنع من الاقتراب منه أو المساس به أو نقده وتطويره
- الأيديولوجيات أو النظريات الفكرية عندما قامت كانت أفكارا جديدة في حينها، وتعرّض أصحابها لمجموعة من المضايقات والاضطهاد في الغالب وقدموا التضحيات، فأصبحت تلك النضالات جزءا من الأيديولوجيا، وأصبحت محاولة التطوير فيها جزءا من خيانة تلك النضالات والتضحيات وانحرافا عن الطريق الذي بذلت فيه التضحيات، واستسلاما للطرف المعادي.
- عندما قامت الأيديولوجيات وتمددت نشأت حولها مجموعة كبيرة من المصالح المادية والمعنوية لأفرادها وبعض المنتفعين، وقامت حولها مجموعة من الإنتاج الفكري من شعر ومؤلفات وفنون بكل أشكالها، فأصبحت محاولة إصلاح هذه الأيديولوجيا تعني أن تذهب بعض هذه المصالح أو يتم الانتقاص منها، ومع أي محاولة إصلاح سوف تنتفض بوجه تلك المحاولات الطبقات المنتفعة من الوضع القائم، والتي أسست حياتها ومكاسبها ومعاشها على قيام هذه الأيديولوجيا واستمرارها والمصالح المرتجاة منها. كما يعني التطوير وإصلاح تلك المنظومات الفكرية التخلص من كم كبير من التراث والإنتاج الأدبي والفني الذي قامت عليه مؤسسات وأرباح ومكتسبات، وهذا أمر بالغ الصعوبة.
لكن النتائج ستكون كارثية على تحول الأيديولوجيات إلى أيديولوجيات صمّاء غير قابلة للتطور والتحديث والتقدم، وأهم هذه النتائج:
- ارتفاع تكلفة التضحيات من قبل الأفراد في تلك الأيديولوجيات، فعندما تصبح الأيديولوجيا صماء غير مرنة وغير قابلة للبناء والتطور، فإن الطريق الوحيد الموجود أمامها للبقاء على قيد الحياة هو المواجهة للحفاظ على تماسك نظريتها وتنظيمها. هذه المواجهة تكلفها الكثير من الأوقات والأموال وأحيانا الأرواح وزهرات أعمار الشباب التي تذبل خلف قضبان الخصوم.
- الأيديولوجيا الصماء تحول أتباعها إلى حالة من السادية عند الوصول للسلطة، فيتم تبرير العنف والاضطهاد في سبيل حماية تلك النظريات، ويصبح الاختلاف مع تلك الأيديولوجيا أو نقدها في نظر أتباعها خيانة للوطن أو الدين أو العرق وعمالة للاستعمار الأجنبي.. الخ، مما يحول الأيديولوجيا من وصفة للخلاص والنهوض إلى وسيلة لمزيد من النكوص والتخلف والاستبداد.
- الأيديولوجيات الصماء المتشددة تنشئ حالة من الشك وعدم الثقة ما بين أتباع الأيديولوجيا والأنظمة السياسية القائمة، هذا الشك يتحول إلى صراع صفري ينتهي عادة بمزيد من السلطات المطلقة للأنظمة الحاكمة المستبدة، ومزيد من الانغلاق الأيديولوجي الأصم، وحينها تتوقف دواليب التطور السياسي في الدول الناشئة أو الديمقراطيات الخداج.
الأيديولوجيا بلا شك ضرورة ومرجع مهم في بناء البرامج والتصورات، الأيديولوجيا دافع ومحرك للعمل الجاد والمثمر ما دامت هذه الأيديولوجيا قابلة للنمو والتطور والتحور والتكيف، ويعمد أصحابها بشكل دوري وممنهج إلى تطويرها وإصلاحها ونقدها وإصلاح أمراضها وإفرازاتها السلبية أولا بأول، وما دون ذلك ستتحول الأيديولوجيا إلى جزء من المرض لا العلاج.
يلاحظ أن الأيديولوجيا الغربية استطاعت أن تجلب الرفاه والتقدم للشعوب التي حكمتها، بسبب قدرتها على التطور الذاتي السلس والبحث الدائم لتطويرها ونقدها من الداخل، وإطلاق يد المفكرين والباحثين وعلماء الإنسانيات في تصور المستقبل القادم بنسخ جديدة محدثة من هذه الأيديولوجيات، مما يعطيها دائما القدرة على تجديد شبابها ومزيد من الصلاحية للمستقبل. لكن في الوقت الذي تعصبت فيه بعض الدول إلى تلك الأيديولوجيا الغربية وتعاملت معها بنوع من المغالاة، مثل موقف فرنسا من الدين وحرية التعبير، وقعت فرنسا في مشاكل كبرى جعلتها تعيش مأزقا سياسيا وأخلاقيا كبيرا اضطرها للاعتذار والتراجع عن هذا الموقف.