قضايا وآراء

الحركة الإسلامية.. السقف الذي يكاد يقع

1300x600
لا يخفى على أحد أنّ الحركة الإسلامية في أغلب مكوّناتها تعيش مرحلة شديدة القسوة، وحالة إرباك شديدة مع الركود والجمود والتثاقل والفراغ، خصوصاً إبّان الانتكاسات التي أصابت ثورات الربيع العربي في المنطقة، والانقلابات التي أطاحت بمشاريع الانعتاق من الظلم وأنماط التبعية، حتى دون أن يرى الجمهور العريض أثرها أو بعض نتائجها وانعكاساتها في الحياة اليومية، ممّا ساهم في نشر حالة من الإحباط لدى الشريحة المؤمنة بهذه المشاريع، والتي كانت تحمل مخيالاً نموذجياً للمشروع الذي قدّمته حركات النهضة والتحرّر في المنطقة، هذا بالإضافة لمحاولات وأد التنظيمات الإسلامية بشتى مشاربها وتجاربها، وتجريمها وملاحقة رموزها والتضييق عليها في كلّ مكان.

إذن هناك عوامل كثيرة أخرى يضيق بها المقام يجعل مشروع الحركة الإسلامية صعباً ومُحاطاً بالكثير من التحديات والمخاطر، ويُساهم في عزل المؤسسات الإسلامية عن المُجتمعات وتنميطها وخنقها وحشرها في مساحة محدودة لا تستطيع من خلالها التعبير عن ذاتها الأصيلة وتلبية رغبات أتباعها، كما يُعجّل في تفتيت أذرع القوة والتمدّد لديها وإضعاف الرصيد الأكبر داخل صفوفها، ألا وهم الشباب الذين قدّموا أغلى ما يملكون بين شهداء ومُعتقلين ومُطاردين في لحظة تاريخية حسٍاسة ومُعقّدة، حيث ضربتهم التحوّلات النفسية في الجذور وأربكتهم إرباكاً شديداً عندما تهاوت المشاريع والجماعات والحركات، فأضحت غير جاذبة ولم تعد قادرة حتى على تقديم وعود مُستقبلية، وبعضها أصبح مُنفّراً وطارداً للكوادر والإمكانيات.

لكن هذا كلّه لا ينفي أيضاً وجود تحديات وعوامل داخلية ضمن الحركة الإسلامية الممتدة، والتي ساهمت في حرق المراحل أحياناً والتعجيل بالمشروع المضاد أحيانا أخرى، وكشفت أوجه الخلل ممّا زاد الطين بلّة.

وسأحاول أن أرصد في هذا المقال مجموعة من العوامل التي أعتقد أنّها بحاجة ماسّة لمُعالجة حكيمة واستراتيجية ومشروع إنقاذ طارئ، وإلا فإنّ المشهد اليوم مُفعم بالسوداوية واليأس، وينشر النار في هشيم جففته سنوات الثورة المضادة على مشروع الإصلاح والنهضة الأقوى والأكثر تأثيراً الذي تمسّكت به الأمّة.. فإمّا الآن أو الاستبدال!!

وهذا الرصد هو نتاج حركة فاعلة واطّلاع عن قرب خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة في مساقات العمل الإسلامي ومؤسساته على اختلاف أنواعها وأنماطها، وجغرافيات التواجد والتأثير في الشرق والغرب وما بينهما، وفي مستويات مختلفة قيادة وإدارة وتنفيذاً. وإنّني على علم أنّ ما سأذكره ليس جديداً وقد عالجه نفرٌ من الأساتذة وأهل الفكر والبحث ومُحبّون كثر لمشروع النهضة والحُرّية والقيم في الأمّة، وقد قُدّمت العديد من الدراسات والبحوث والمقالات والأفكار والمداخل الأساسية التي سعت لإزالة العوائق أمام النهوض الحضاري. وكذلك هي ليست مجموعة من السرديات الممجوجة والمُكرّرة، بل شهادات ومُشاهدات وتشخيص لمكامن الداء الداخلية للحركة الإسلامية، إذ هناك حالة من الإسهاب في رصد عوائق النهوض الخارجية المتعلّقة بالأطراف "الأخرى" دون النظر العميق للعوامل الداخلية، وكأنّه هروب من هذا الواقع المُؤلم نحو إلقاء تبعات هذا الانكسار على الآخر والشعور برضا مُزيّف ومُؤقت!

وقد وقفتُ - كما وقف كثيرون - على العديد من التحديات والأدواء الداخلية للحركة والتي أدّت لهذا الوضع المُعقّد اليوم، ولكنّني مكثتُ طويلاً أمام ثلاثة تحديات رئيسة أظنّ أنّها جمعت في طيّاتها الكثير من العُقد الفرعية والتفصيلية، وهي تُمثّل في رأيي اليوم أمّهات العوائق الداخلية للمؤسسات العاملة في نطاق العمل المُجتمعي والثقافي والفكري الإسلامي:

1- أزمة المشروع والرؤية:

لعل أبرز مأزق تُعاني منه الحركة الإسلامية اليوم - بتنوّعاتها ومؤسساتها المختلفة - هو مأزق المشروع، والحقيقة أنّ غالبية الحركات والمؤسسات الأيديولوجية والأحزاب تُعاني اليوم من ذات الداء. أزمة الوظيفة لا تكاد تنجو منها حركة أو تنظيم، لكنّنا اليوم نُخصّص الحديث عن المشروع الإسلامي الذي يعيش حالة انسداد أفق وفقدان للبوصلة، أو بالأحرى -وبكل بساطة - عدم امتلاك الحركة اليوم جواباً شافياً وواضحاً وجامعاً على السؤال الكبير والجوهري: ماذا نريد؟

دعك من الإجابات الجاهزة والتقليدية، أقصد ماذا نُريد بحق؟ ما هو مشروع الحركة الإسلامية الاستراتيجي اليوم؟ هل تسعى للوصول للسلطة؟ هل تتبنّى العمل المُسلّح؟ أم العمل السلمي؟ هل مشروعها تربوي دعوي ثقافي حقاً؟ هل تسعى لتغيير المُجتمعات؟ أم تسعى للتأثير بالنخبة؟ وبالمناسبة، هل هي حركة شعبية أم حركة نخبوية؟ وما هي أهم وسائل الحركة للتأثير والتغيير؟ أين هم الشباب في عملية التغيير هذه؟ وأين المرأة في هذه المنظومة؟ بل أين "الآخر" من هذا المشروع الكبير للأمّة قاطبة؟ كيف يُمكن تمييز الخطوط الحمراء والثوابت الأساسية لهذا المشروع؟ أم أصبح مشروع الحركة الإسلامية مشروع تنازلات كما يُصوّره البعض؟ يُطلق عليه أصحابه أوصافاً واقعية ومصلحية ومرحلية، مع أنّه صار يتماهى مع كلّ شيء وأي شيء باسم المصلحة، في زمن تتشابك فيه الظروف والمصالح وتتعقد وتتسارع الأحداث فيه باستمرار!

إذن هناك العديد من الأسئلة المُلحّة والمُهمّة، سواء لذات المشروع أو لأبناء الأمّة الذين ما زالوا يحملون همّ التغيير والنهضة، ويطمحون لتطوير أوطانهم، ويسعون ما أمكنهم ذلك للحفاظ على هويتهم وقيمهم، والذين بات جزء كبير منهم في حالة ضياع أيديولوجي.. ماذا نريد؟ وماذا يُريدون؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟ وعدم الإجابة على هذه الأسئلة يُؤدّي مع الوقت لحالة تآكل معرفية ومنهجية داخل المنظومة، ممّا يجعل التنظيم أو التشكيل هدفاً بحدّ ذاته ويدور الجميع داخله في فلك "البقاء" والوجاهة، وتزدحم القمّة بالقوم بينما البناء والقاعدة في حالة ضعف شديد، وهذا يجعله بطبيعة الحال أكثر انغلاقاً وبُعداً عن المرونة والانفتاح، سواء على الأشخاص أو على الأفكار.

إنّ وجود رؤية واضحة وهوية نقيّة ومشروع حقيقي وهدف مُرتبط بالميدان – ولو كان بسيطاً - هو أول خطوة لإعادة الثقة بين الحركة الإسلامية وأبناء الأمة، وهو أمر يحتاج مُراجعات حقيقية وعميقة وممتدة، ومنهجية بناء ناظمة للأفكار وقادرة على توجيه الناس نحو مجموعة أهداف ضمن رؤية مُستقبلية واضحة؛ في ظل الدفق الهائل للمعلومات والأفكار التي تردنا من كلّ حدب وصوب! كما أنّ الحركة بحاجة ماسّة لتوليد الإجابات على المسائل الفكرية المُلحّة ومُقاربتها ضمن سياق التحديات والواقع الذي تعيشه، وتجديد النظريات وتعزيز العدّة المعرفية وتقديم أطروحات فكرية تسد الفراغ الذي خلّفته ثورات الربيع العربي، وهذا سيُساهم في تعزيز مهارات النقد البنّاء والتقييم الدائم للأفكار والمشاريع!

2- أزمة القيادة:

ثم إنّه لا يخفى على أحد ما تُعاني منه الحركات والمؤسسات الإسلامية اليوم من أزمة جادّة وحادّة مع القيادة مفهوماً وتطبيقاً، ولعلّ أبرز مظاهر هذه الأزمة هو: تمسّك القيادات التاريخية بالمناصب والمواقع الرئيسة، وتدوير هذه المواقع بين مجموعة من الأشخاص لوقت زمني طويل، ممّا يُساهم في تعزيز وتغليب الولاء التنظيمي على الكفاءة والقدرة والمهارة والأهليّة، فيضطر أصحاب الكفاءات من أبناء المؤسسات للبحث عن بيئة أخرى تستوعب قدراتهم بشكل أفضل.

كذلك من الملاحظ ضمن الحديث عن أزمة القيادة عدم الدفع بقيادات مُتجدّدة وشابّة، أو تأهيل طبقة من القادة وتدريبهم وتنشئتهم وتعاهدهم بشكل جيّد يضمن الاستمرارية والتجديد، إلا على استحياء شديد وبنسب لا تنسجم مع الأزمات المتوالية وحالة التغيير المطلوبة. وفي أحيان كثيرة يحدث ذلك بهدف التسويق وترقيع الخلل الواضح في البناء العام، وبدون وجود معايير واضحة لهذا الاختيار الخجول. وفي كثير من النماذج يتم توريث هذه الأمراض بشكل غير مباشر، فتنتقل من جيل إلى جيل وتُصبح عُرفاً معمولاً به حتى بين القادة الشباب. ولذلك فإنّه من الملاحظ اليوم الارتجالية الكبيرة في أداء المؤسسات والأحزاب والحركات الإسلامية وعدم التخطيط بشكل مُنظّم، وعدم القدرة على علاج وإدارة المشاكل الداخلية بشكل دقيق، وبهذه الطريقة يتم تعزيز مفهوم صراع الأجيال داخل أي مؤسسة أو تنظيم.

والحقيقة التي لا يُمكن إنكارها أنّه لا يُمكن للحركة الإسلامية - بحال - قيادة الأمّة في مشروع يسعى للتحرّر والتطوير والنهضة إذا لم تكن قادرة على قيادة ذاتها وأفرادها بشكل صحيح ومُتقن وحكيم، وهذ يحتاج إلى تجرّد وإخلاص واحترافية عالية من أصحاب القرار بالسماح لأهل التخصّص والأهليّة بالتدخّل لرفع الكفاءات وتدريب الأعضاء، وتطوير الطبقة القيادية وتصحيح مسار الإدارة، وفسح المجال لأهل الدراية والمهارة لتقلّد المواقع والمراكز الاستراتيجية والمُهمّة.

3- أزمة التواصل:

وقد خصّصتُ هذه النقطة برغم أنّها ربما قد تكون مُتّصلة مع أزمة القيادة في النقطة السابقة، وذلك لأهمّيتها في الوقت الراهن وحالة العجز الواضحة لدى الكثير من التنظيمات في مسألة التواصل الداخلي والخارجي، وإشراك القواعد في مناخ هادئ ومرن يتمكّن الجميع فيه من المشاركة في صناعة الأفكار والمشاريع وتولّي مناصب قيادية فيها.

داخلياً، من المُشاهد والمُلاحظ غياب المرونة لدى الكثير من التنظيمات والحركات الإسلامية، وأقصد بذلك قدرة الحركة على تجديد الدماء وتغييرها بطريقة مرنة من خلال معايير واضحة وموضوعية؛ دون انقطاع في المشروع أو جمود في العمل أو تشرذم داخل الصف. ومن أهم أسباب ذلك غياب التواصل مع القواعد والتمسّك بدلاّ من ذلك بالإجراءات أو التحكّم بها بشكل يُفقد اللوائح روحها ويجعلها سيفاً مًسلّطاً على أي عملية تغيير داخل المؤسسات، وهذا بلا شك يُضعف التنظيم ويُطلق يد الاستبداد ويجعل الحركات فارغة من الداخل.

إنّ هدف التواصل الداخلي الرئيسي لدى أي مؤسسة هو تمرير الأهداف المرحلية والرؤى والاستراتيجيات ووسائل تحقيقها للأفراد والأعضاء، وإدماجهم في عمليات التنفيذ المختلفة. وهذا يُساهم في تأصيل العمل المؤسساتي وتقويم العمل بشكل دائم، ويفتح قنوات الحوار الداخلي ويُعزّز حالة التكامل وليس التآكل!

خارجياً، تعيش كثير من التنظيمات الإسلامية أحلك فتراتها وتفقد حلفاءها باستمرار، في الوقت الذي ينبغي فيه مراعاة علاقاتها مع ما تبقّى من حلفاء محلياً ودولياً، ومراجعة خطط التواصل والتجارب السابقة بكل شفافية، خاصة عندما كانت بعض هذه الحركات في سدة الحكم، وكذلك تقييم الخطاب العام للمؤسسات والتنظيمات، والذي أفقدها في كثير من الأحيان رصيدها في الشارع ولدى الحلفاء، وصنع فجوة كبيرة بينها وبين نظرائها من الأحزاب والتيارات، وأعطى الذرائع لضربها في الصميم.

من المهم التحوّل من عقلية التبرير إلى منهجية واضحة لدراسة الخلل في العلاقات والتحالفات، وإتاحة الفرصة لأهل الخبرة والمتخصصين لتداول الآراء، ووضع الحلول والإجراءات العلمية القادرة على إخراج المؤسسة من التحديات المتعلقة بالتواصل الداخلي والخارجي، وترميم صورتها في المجتمع لتستطيع الاستمرار في تأدية واجبها وتحقيق أهدافها بشكل جيد!

في الختام، ينبغي التأكيد على أهمية ما قامت وتقوم به الحركة الإسلامية ومؤسساتها من مشاريع وبرامج وأفكار ومبادرات ساهمت في صياغة واقعنا اليوم بإيجابياته وسلبياته. فبرغم حالة الضعف التي أصابت الحركات الإسلامية في السنوات الأخيرة، إلا أنّها تُعتبر واحدة من ركائز وروّاد التغيير في المنطقة ورافعة سياسية وفكرية ومُجتمعية مهمة لقضايا الأمّة العادلة، فهي تُمثّل اليوم السقف الذي يحمي البيت من الزوابع والعواصف، ويُقلق كلّ حرّ أن يُصيب هذا السقف تصدّع وتمزّق؛ إن لم يستدركه العقلاء وأهل الرأي والحكمة بالحلول الناجعة والعميقة المتعلقة بشكل رئيسي بالمشروع والقيادة والتواصل فإنّه يُخشى أن يقع على من فيه، وحينذاك لا ينفع الندم واللوم، وسيخسر الشرفاء والأحرار بذلك خسارة كبيرة.