تندر بعض المصريين، وغيرهم من المراقبين للأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر، من كلمة قالها الرئيس عبدالفتاح
السيسي خلال حديثه في مؤتمر صحفي عقد في ختام مؤتمر "فيشجراد"، الذي انعقد في العاصمة المجرية، بودابست (12 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي)، لكنني لم أحبذ المشاركة في التندر، وفضلت التفكير في إمكانية أن يكون المعنى المقصود غير ذاك الذي ورد تلقائيا إلى أذهان المتندرين.
سأدع - لوقت لاحق - الحديث عن ازدراء السيسي المتكرر لمفاهيم
حقوق الإنسان، وإصراره على وضعها في مرتبة متدنية في سلم
أولويات الدولة المصرية.
ولأذكر الجملة كاملة؛ بما فيها "الازدراء"، والكلمة موضع التندر (إحياء)، قال السيسي: "نحن قيادة تحترم شعبها وتحبه وتسعى من أجل تقدمه، مش محتاجين أبدا إن حد يقولنا إن
حقوق الإنسان فيها تجاوز. أنا مسئول عن إحياء 100 مليون نفس والحفاظ عليهم ده أمر ليس باليسير".
كلمة "إحياء" هي محل التندر، وموضع البحث.
معذور، طبعا، من يرد على ذهنه المعنى الأول، القريب:
إِحياء: (اسم)، مصدر أَحْيَا.
مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى: عَلَى إِعَادَةِ بَعْثِ الحَيَاةِ فِيهَا.
لكن الكلمة تعطي معاني أخرى، منها:
إِحْيَاءُ الأَرْضِ: إِخْصَابُهَا، جَعْلُهَا صَالِحَةً للزِّرَاعَةِ.
قَامَ الشّعْبُ بإحْيَاءِ ذِكْرَى عِيدِ الاسْتِقْلاَلِ: الاحْتِفَاءُ بِذِكْرَى الاسْتِقْلاَلِ.
ثم أنها تعطي معنى بعيدا:
إحياء: بعث الحيويّة والنشاط والإنعاش والتجديد.
هل السيسي بعيد الغور، ضليع في اللغة إلى هذا الحد؟ ممكن، محتمل.
الطريف في الأمر أن بعض المواقع الخبرية المصرية علق بذهنها المعنى الأول، والتندر المصاحب له، فجرى تعديل جملة الرئيس، هكذا: "أنا مسئول عن حياة 100 مليون"!
هذا، كما يقولون، مربط الفرس.
رئيس الدولة، في المفهوم الحديث، مجرد موظف عام كبير منتخب، وفقط، ليس مسئولا عن حياة أحد، فكل فرد مسئول عن حياته.. الرئيس مسئول، يسأل من يرأسهم، ويسأله كل فرد من الشعب.
المتندرون يصرون على أن الرئيس قصد المعنى الأول، وأنه في قرارة نفسه يتصور أنه مكلف بمهمة "إلهية"، ومن هذا التصور ينطق ويتصرف. أنا لا أعرف "قرارة نفس" أي إنسان، ولا أسمح لنفسي بالذهاب إلى هذا السبيل، لكني أظن أن القاموس اللغوي للرئيس ملغز بعض الشيء.
ومن هنا جاءت كلمة "نور"، في عنوان هذه الكلمات، على هذا الشكل الخطأ "نورن".
خطأ السيسي ليس لغويا (وهذا وارد طبعا)، لكنه بالأساس خطأ نابع من تصوره لدوره كرئيس للجمهورية.
خطأ السيسي، مع افتراض أنه ضليع وأنه قصد "بعث الحيويّة والنشاط والإنعاش والتجديد"، في ترتيبه للخطوات المفضية لتحقيق تلك المهمة الكبرى، فهو ينحّي جانبا - مؤقتا - مسائل من نوعية: حقوق الإنسان، حرية التعبير، الحق في المعرفة، الحق في
التعليم، وغيرها من الحقوق الشقيقة لهذه، وينشغل بحقوق غيرها يراها أهم وأوجب، كأنه يستحيل الجمع بينها، وكأن على المصري أن يختار إما أنه "آلة" أو "كائن" يلزمه فقط الأكل والشرب والتبرز، ولا يتمكن من هذا لكنه يتمتع بحرياته الآخرى الأساسية: التعبير، المعرفة، التعليم.
ظهر منظور السيسي، بجلاء، خلال الأسبوع الأول من الدراسة. فقد تناقل المصريون، ونشرت الصحافة والمواقع الخبرية والبرامج التلفزيونية، صور تلاميذ يفترشون أرض فصل دراسي خال من المقاعد، يلتصق التلاميذ بحوائط ثلاثة، وباقي الفصل فارغ.
فماذا فعلت "الجمهورية الجديدة" تجاه هذه الواقعة الدالة على منطق الرئيس: "مين وبكام.. يعمل إيه التعليم في دولة ضايعة".
وزير التربية والتعليم والتعليم الفني الدكتور طارق شوقي، قرر "منع التصوير داخل المنشآت التعليمية، إلا بعد التنسيق المسبق مع المستشار الإعلامي للوزارة أو مدير المديرية أو الهيئة أو المركز، للحفاظ على هيبة المؤسسات التعليمية واحترام العاملين بها".
والمعنى أن الرئيس عبد الفتاح السيسي لو كان سُئل في مؤتمر بودابست: التلاميذ يجلسون على الأرض في مصر فعلا؟ كان سيجيب: "العلم نورن".. "نحن قيادة تحترم شعبها وتحبه وتسعى من أجل تقدمه، مش محتاجين أبدا إن حد يقولنا إن "الحق في التعليم" فيها تجاوز، أنا مسئول عن إحياء 100 مليون نفس والحفاظ عليهم ده أمر ليس باليسير".
هكذا في الجمهورية الجديدة العلم "نورن" فالتلاميذ يذهبون إلى المدارس حتى ولو كانت خالية من المقاعد،
وهيبة الدولة تستوجب عدم الحديث عن هذا.. ممنوع الحديث عما
يحدث في المدارس لأن هيبة الدولة أو هيبة الجمهورية الجديدة ستتأثر، تخدش، تكسر، يجترأ عليها.. أيها المصري اذهب بأطفالك للمدارس وأنت ساكت، لا حس، ولا خبر.
صريح الدكتور طارق، كما أن رئيسه صريح:
العجز في الفصول يصل لـ250 ألف فصل، والفصل يتكلف على أقل التقديرات نصف مليون جنيه. الوزارة تعاني من عجز في أكثر من 260 ألف معلم في مختلف التخصصات، وكل 30 ألف معلم يكلفون الدولة مليار جنيه بالحد الأدنى للأجور، وبالتالي نتحدث عن تسعة مليارات جنيه لسد عجز المعلمين في المدارس.
وهذه هي الجملة التحفة، جملة تلخص تصور السيسي خير تصوير، يقول الوزير: ما نقدرش نطلب من المالية المبلغ ده في ظل الأعباء الكثيرة الحالية في الدولة.
ليه منقدرش؟ أنت مين عشان تطلب؟ أنت وزير، موظف، المصريون يقدرون لو كان هناك شخص غيرك في الموقع الذي تشغله، يقدرون لو كان هناك شخص غير.. في الموقع الذي يشغله.
هل نحتاج لذكر ما جرى في مدرسة منية سندوب الابتدائية بالدقهلية، أو لذكر واقعة "وفاة طفل بسبب التختة الأولى في كفر الشيخ"، أو لذكر واقعة اصابة تلاميذ بسبب التدافع داخل إحدي المدارس في كرداسة؟
أم يكفي أن نذكر أن الجمهورية الجديدة تعاني من عسر بالغ، حالة تقشف تطال الأساسيات، الحقوق، لكنها تنفق ببذخ في "
الهيبة".. الدكتور طارق قال: الوزارة ترغب في تعيين خريجي كليات التربية والخدمة الاجتماعية والمؤهلين للتعليم إذا امتلكت القدرة على ذلك، لافتا إلى أن الجهاز الإداري للدولة ممنوع من التعيين الدائم.
ورئيس الوزراء الدكتور مصطفي مدبولي، أصدر قرارا بترشيد الإنفاق العام في الجهات الداخلية في الموازنة العامة للدولة والهيئات العامة الاقتصادية، وتحديدا باب الأجور وتعويضات العاملين، وعلى رأسها: عدم إجراء أي تعيينات أو ترقيات، وحظر الصرف على المنح التدريبية ومكافآت التدريب والمنح الدراسية في الداخل أو الخارج، وحظر الصرف على اعتمادات الخدمات الاجتماعية.
رفضت التندر في البداية، وفي النهاية أرفضه أيضا، لكني احتراما للقارئ لا بد لي من أن أقول: محتمل أن الرئيس عبد الفتاح السيسي كان يقصد المعنى الأول، المباشر، لكلمة "إحياء"، محتمل أنه يعتبرنا أمواتا فعلا.