حكايتي مع زكي أنواري

"أنت رسام حياتك، لا تعطي فرشاة الطلاء لأي شخص آخر".. كانت هذه العبارة هي آخر ما كتبه لاعب منتخب الشباب الأفغاني زكي أنواري عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" قبل وفاته.

الشاب الأفغاني الذي لم يبلغ التاسعة عشرة من عمره، وجدوا جثته داخل إحدى إطارات طائرة أمريكية فور وصولها إلى الدوحة. 

الطائرة الأمريكية هي نفسها التي شاهد العالم صورها وهي تقلع من مطار كابول وسط زحام شديد من مواطنين أفغان وجدوا فيها ضالتهم للانتقال لعالم آخر أكثر أمانا، ولكن زكي أنواري لم يعلم أن تلك الطائرة ستحمله للعالم الآخر بعيدا عن كل تلك الصراعات البغيضة.

في لحظات كالتي تعيشها أفغانستان على مدار الأيام الماضية، يعتبر حلم الهجرة لأوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية وكندا حلما لمئات الآلاف خاصة الشباب الذي أرهقته الصراعات الداخلية والأوضاع الاقتصادية المتردية والأحوال المعيشية الصعبة في أفغانستان، فبات التعلق بطائرة أمريكية حتى ولو لم تجد مكانا آمنا بداخلها هو غاية الأمل ومنتهى الحلم لشاب صغير مثل زكي أنواري.

الشعور بالخطر على حياتك، والإحباط المتواصل من الأوضاع المعيشية يدفعانك لاتخاذ قرارات مصيرية وربما كانت مستحيلة كالهروب من وطنك واستغلال أول فرصة سانحة لذلك. هذا بالضبط ما حاول أنواري فعله، وهذا بالضبط ما فعلته بنفسي في نفس اليوم الذي مات فيه أنواري ولكن منذ ثمان سنوات في مصر.

تشابهت الظروف بيننا، فالقصة واحدة، خوف من مصير مجهول، وهروب من الوطن، ومحاولة البحث عن مكان آمن على حياتك، والمجازفة بكل شيء في لحظة واحدة في مقابل التعلق بالفرصة التي سنحت أمامك، منذ ثمانية أعوام حاول النظام المصري قتلي بعد ارتكابه أبشع مذبحة في التاريخ المصري الحديث، مذبحة رابعة، فقررت المجازفة بكل شيء والسفر في أول رحلة إلى تركيا دون النظر ورائي.

بكيت من الحزن على فراق الوطن، وربما بكى زكي أنواري أيضا ولكن من الخوف، كانت الطائرة تقلع من مطار القاهرة وكاد قلبي يتوقف من القلق على المصير المجهول الذي ينتظرني، ولكن زكي أنواري توقف قلبه عندما قتلته عجلات الطائرة بعد إقلاعها بلحظات، الفارق كان كبيرا فقد كنت محظوظا أن وجدت مكانا بداخل الطائرة التي حملتني إلى الأمان، ولكن أنواري لم يجد مكانا فتعلق بجسم الطائرة الذي حمله إلى الموت.

الشعور بالخطر على حياتك، والإحباط المتواصل من الأوضاع المعيشية يدفعانك لاتخاذ قرارات مصيرية وربما كانت مستحيلة كالهروب من وطنك واستغلال أول فرصة سانحة لذلك. هذا بالضبط ما حاول أنواري فعله، وهذا بالضبط ما فعلته بنفسي في نفس اليوم الذي مات فيه أنواري ولكن منذ ثمان سنوات في مصر.

لم ينتظر أنواري كثيرا حتى تهدأ الأمور داخل أفغانستان، ولم يعطِ فرشاة الطلاء لا لحركة طالبان ولا لغيرها كي يرسم حياته، وإنما اختار أن يرسمها بنفسه فأصبح أيقونة أفغانية يتحدث عنها العالم أجمع تارة بأسى وحزن وتارة بفخر وثناء على شجاعة هذا الشاب الصغير.

كتب أحدهم منتقدا أنواري وموقفه غير المدروس بالتعلق بجسد الطائرة، تلك الكتابات الساذجة ذكرتني بكتابات أخرى لليمين المتطرف وبعض المسؤولين الغربيين المنتقدين تدفق اللاجئين على بلدانهم الأوروبية في السنوات الأخيرة، الجميع يوجه سهام الانتقادات للاجئين أنفسهم ويعتبرونهم غزاة طامعين في مميزات الحياة والدعم الحكومي من بلدان أوروبا، ونسي هؤلاء أن حكوماتهم هي جزء أصيل من تلك المشكلة.

بشكل شخصي، لم أكن لأخرج من بلدي وأترك حياتي في مصر كطبيب أسنان ثم أقدم على خطوة اللجوء السياسي في بريطانيا إلا بفضل الدعم السياسي غير المسبوق الذي قدمته حكومات غربية على رأسها حكومة ديفيد كاميرون في بريطانيا للانقلاب العسكري الذي قام به عبد الفتاح السيسي في مصر يوليو (تموز) 2013، ولم يكن زكي أنواري ليقدم على مجازفة بحياته كالتي أقدم عليها إلا بفضل الاحتلال الأمريكي بمعاونة دول غربية لأفغانستان منذ عشرين سنة.

أنواري الذي ولد ليجد بلده محتلا من جيوش غربية، ولا تتمتع بلاده لا بحريات أو باستقلال، بلد ممزق بين صراعات ومجموعات مسلحة، لماذا يمكن أن نلومه أنه فكر في اللجوء والهجرة بهذا الشكل؟ ولماذا يمكن أن نلوم من يغامرون بحياتهم في قوارب مطاطية ليعبروا بها إلى الأمان المنتظر في أوروبا؟

إن كان هناك من لوم وانتقاد فهو موجه أولا للأنظمة الديكتاتورية في بلداننا العربية ثم للأنظمة الغربية التي توفر الغطاء السياسي والمالي والأخلاقي أيضا لهذه الانظمة كي تجعل من شعوبها مشاريع لاجئين أو طالبين للجوء السياسي والإنساني بعيدا عن أوطانهم.

حزين للغاية على مصير زكي أنواري الذي كان من الممكن أن أواجه نفس مصيره منذ ثمانية أعوام، وأعتقد أن دوري ودور جميع من عاشوا تجربة أنواري أن يتحدثوا عن قصته ومعاناة شعبه حتى لا نعيش نفس الكارثة مرة أخرى.