دانييل أوبونو نائبة في البرلمان الفرنسي، تمثّل الدائرة 17 في العاصمة باريس وتنتمي إلى حزب "فرنسا الأبية"؛ وهي، للإيضاح ذي المغزى، من أصول أفريقية غابونية.
وهذه السيدة جازفت قبل أيام بالمشاركة في نقاش حول العدوان الإسرائيلي على غزّة نظمته قناة i24 الإسرائيلية التي تبثّ بالفرنسية، ولم تكد تنطق ببضع كلمات (مفادها أنّ أيّ وقف إطلاق نار لن ينجح ما لم تُعالج جذور الصراع ويتوقف الاستيطان)، حتى عاجلها مشارك يمثل حزب العمال الإسرائيلي باتهامين: أنّ حزبها جدير بتسمية الحزب الخاضع للإسلاميين وليس الحزب الأبيّ، وأنها – بالطبع! – معادية للسامية.
انسحبت أوبونو من النقاش، وتركت لهم أن يتابعوا "السيرك" حسب تعبيرها، ولعلّ هذا هو عنصر المجازفة الأوّل في قبولها المشاركة على فضائية إسرائيلية؛ هي التي لا تجهل أنّ فزّاعة العداء للسامية سوف تُرفع، على الفور، في وجه أيّ رأي موضوعي يتناول الانتهاكات الإسرائيلية في القدس المحتلة والعدوان الهمجي على غزّة.
عنصر ثانٍ في المجازفة أنّ أوبونو تلقى من اليمين الفرنسي (والقناة الإسرائيلية يمينية بامتياز صريح) معاملة بالغة الخسة والوضاعة، لا تكتفي بالتشهير العنصري اعتماداً على أصولها وبشرتها السوداء، بل تذهب إلى مستوى تصويرها وهي في أغلال العبيد كما فعلت مجلة "فالور أكتويل" ممثلة اليمين العنصري في فرنسا.
وقبل أيام، في ذروة العدوان وتعليقاً على منع السلطات الفرنسية تنظيم مظاهرة تضامن مع الفلسطينيين في باريس، قال مانويل فالس رئيس الوزراء الأسبق عن الحزب الاشتراكي إنه يؤيد المنع لأنّ معاداة الصهيونية هي أيضاً معاداة للسامية. المعلق الشهير جان – ميشيل أباتي وضعه أنصار دولة الاحتلال على المقصلة إياها (العداء للسامية) لأنه قال إنّ الحلول مستعصية لأنّ بنيامين نتنياهو يرفض فكرة دولة فلسطينية، ولأنّ الدولة الإسرائيلية اليوم هي نتنياهو.
كلّ هذا من دون التوقف عند تصريحات/ تنظيرات أمثال آلان فنكلكروت وبرنار – هنري ليفي ورهط "الفلاسفة" البهاليل لدى دولة الاحتلال؛ وكلّ هذا، كذلك، في بلد صوّت برلمانه على قانون يقترب من المساواة بين العداء للصهيونية والعداء للسامية.
صحيح، بالطبع، أنّ فرنسا حظيت على الدوام بمكانة خاصة في قلوب الصهاينة، لأنها بلد شهد محاكمة الضابط الفرنسي اليهودي ألفريد دريفوس، فكانت شرارة أولى أشعلت لهيب فكرة "الدولة اليهودية" في تفكير صحافي نمساوي يهودي يدعى تيودور هرتزل؛ كان آنذاك مراسلاً في باريس لصحيفة "الصحافة الحرة الجديدة"، أبرز المطبوعات الليبرالية في أوروبا تلك الأيام. ورغم أنّ هرتزل لن يشهد تبرئة دريفوس لأنه توفي عام 1904، لكنه شاهد بأمّ عينيه وأصاخ السمع عميقاً للحناجر الفرنسية التي كانت تهتف: "الموت لليهود!"؛ ومناخات العداء للسامية هذه دفعته إلى كتابة مسرحيته "الغيتو الجديد" وكرّاسه الأشهر "الدولة اليهودية".
والمفارقة المتمثلة في أن دريفوس نفسه كان بعيداً تماماً عن أي تفكير صهيوني، وهكذا ظلّ حتى وفاته عام 1935، لم يُضعف فزاعة العداء للسامية بوصفها هوساً فرنسياً مزمناُ. كذلك فإنّ التصريح الذي أطلقه، ذات يوم غير بعيد، نائب وزير الخارجية الإسرائيلي ميكائيل ملكيور، واتهم فرنسا بأنها اليوم "البلد الغربي الأسوأ في ميدان العداء للسامية"، لم يغيّر من حجم النفوذ الكبير الذي تتمتّع به الأوساط الصهيونية في مختلف ميادين الحياة الفرنسية، السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية.
فرنسا الحكومية تمنع مظاهرة تضامن مع الفلسطينيين، ولكنها سمحت وتسمح بمظاهرات شتى لليمين المتطرف، وأخرى فرنسية خالصة تهتف علانية: "الموت للجمهورية". وليس من دون دلالات بالغة العمق أنّ العداء لآراء النائبة أوبونو يمتزج، لدى صهاينة فرنسا ومشايعيهم، ببغضاء عنصرية صريحة تارة أو مبطنة تارة أخرى؛ إذا وضع المرء جانباً حشر الإسلام في السجال، من باب التعمّد، أو كيفما اتفق، أو على أي نحو عشوائي.
(القدس العربي)