يُعنى موقع “مشروع الأولويات الوطنية” NPP الأمريكي بتوعية الأفراد والحركات حول القيام بمبادرات “تتيح للموارد الفدرالية أن تمنح الأولوية للسلام، والرفاه المشترك، والأمن الاقتصادي للجميع”؛ وأنشطته تتركز، استطرادا، على حسن إنفاق بنود الميزانية الفدرالية الأمريكية، أو سوء تبذيرها في ميادين مناقضة أو حتى مخالفة لروحية الدستور الأمريكي.
وفي أحدث تقاريره، يشير الموقع إلى أن مجموع المساعدات الأمريكية لدولة
الاحتلال الإسرائيلي بلغ 22,76 مليار دولار منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع
غزة؛ فضلاً عن 20 مليار دولار مبيعات أسلحة وعدت بها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في آب (أغسطس) الماضي، وهذه وسواها بمعزل عن الـ3,8 مليار التي ترسلها أمريكا سنوياً إلى دولة الاحتلال.
هذا مع العلم أن القوانين الأمريكية تحظر تصدير الأسلحة ذات الطابع الفتاك إلى قوى وأنظمة يمكن أن تستخدمها في عمليات عسكرية تأخذ صفات الإبادة الجماعية ضد المدنيين؛ ومع العلم، أيضا، أن محكمة العدل الدولية أقرت بأن الحرب الإسرائيلية في القطاع تحتمل توصيف الإبادة الجماعية. ثمّ مع العلم، أخيراً وليس آخرا، أن أرقام ضحايا العدوان الإسرائيلي على القطاع بلغت، حتى الساعة، أكثر من 42,000 في مختلف أرجاء قطاع غزة، ونحو 700 في الضفة الغربية، ومعدلات الأطفال والنساء والشيوخ مرتفعة بين الضحايا.
ومن باب الطرافة، السوداء كما يصحّ القول، يستعرض الموقع ما يمكن لهذه المليارات المقدّمة إلى الكيان الصهيوني أن توفّره من خدمات مدنية في داخل الولايات المتحدة:
ــ 29,915 ممرضة مسجلة، أو؛
ــ 394,738 وحدة سكنية عمومية، أو؛
ــ 86,996 وظيفة تدفع 15 دولاراً لساعة العمل مع امتيازاتها، أو؛
ــ 39,158 معلّماً في المدارس الابتدائية، أو؛
ــ 22,039 وظيفة في ميادين الطاقة النظيفة، أو؛
ــ 296,947 وظيفة رعاية للأطفال، أو؛
ــ 223,563 خدمة طبية للمتقاعدين العسكريين، أو؛
ــ 97,615 منحة دراسة جامعية لمدّة 4 سنوات، أو؛
ــ 1,32 مليون طفل يتلقون علاج الدخل المنخفض، أو؛
ــ 8,56 مليون مسكن يعتمد طاقة الرياح، أو؛
ــ 769,230 راشد يتلقون رعاية الدخل المحدود الصحية، أو؛
ــ 9,44 مليون مسكن يستخدم الكهرباء الشمسية…
وبينما تواصل أطوار ما بعد وباء كوفيد ممارسة ضغوطات هائلة على القطاع الصحي، فإن مئات الآلاف، والملايين في الواقع، في الولايات المتحدة يواصلون الخضوع لشروط عيش مزرية، في قطاعات السكن والصحة والتعليم والقدرة الشرائية والخدمات الضرورية الأخرى؛ إلى جانب صراع العديد من الولايات مع كوارث المناخ وانحطاط البيئة وتدهور الأمن.
لكن المرء لا يعدم رأياً للسناتور لندزي غراهام، مثلاً، يفضّل تخصيص المزيد من المساعدات المالية ومبيعات الأسلحة إلى دولة الاحتلال، على توفير متطلبات لا غنى عنه لناخبيه أنفسهم في الولاية التي يزعم تمثيلها؛ وأن يطلق تصريحاته هذه حين يكون إعصار هيلين يعصف بولايته الأمّ في ساوث كارولاينا.
من جانبه فإنّ “معهد واتسون للشؤون العالمية والعامة”، الأمريكي بدوره، يتوقف عند جوانب أخرى من الإنفاق الأمريكي على حرب الإبادة الإسرائيلية؛ بينها توسيع البحرية الأمريكية من انتشارها في المنطقة وتصعيد عملياتها العسكرية ضدّ الحوثيين في اليمن، بالتوازي مع تكثيف الأنشطة العسكرية على الأراضي العراقية والسورية؛ بكلفة بلغت 4,86 مليار دولار، أًضيف إليها ما قيمته 2,1 مليار دولار أثمان تحويل مسارات البواخر بعيداً عن مياه المنطقة.
وأضخم قيمة من أيّ وقت مضى منذ بدأت تقديم المساعدات إلى دولة الاحتلال، في سنة 1959، أنفقت واشنطن 17,9 مليار دولار في بند “المساعدات الأمنية” للعمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزّة؛ مع الإشارة إلى أنّ هذا الرقم “يظلّ جزئياً” حسب تقديرات المعهد، إذْ لا يأخذ في الحسبان فتح دولة الاحتلال جبهة ثانية في جنوب لبنان.
ورغم أنّ دولة الاحتلال لا ترتبط بمعاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة، على غرار اليابان أو الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي، فإنّ دولة الاحتلال تتصدّر “القائمة الأقصر” للدول التي تتمتع بالحصول على أكثر المعدات تقدماً وتطويراً في المنصات العسكرية والتكنولوجية الأمريكية؛ ورقم المساعدات، الذي بلغ حتى الشهر الحالي تشرين الأول (أكتوبر) 310 مليارات دولار، شاهد بليغ على العلاقة العضوية الفريدة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.
على الجانب غير السياسي والمادّي والعسكري والتكنولوجي من هذه العلاقة العضوية، ثمة جوانب معنوية وأخلاقية وثقافية تخصّ ما تمارسه مجموعات الضغط اليهودية من “إنفاق” على حرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة؛ لا يضرب بجذوره في الماضي القريب لهذه العلاقة فحسب، بل يصنع ما يشبه القاعدة الثابتة التي لا تتزحزح أيضاً.
وذات يوم كان الصحافي الأمريكي اليهودي جيفري غولدبرغ يتناول العشاء مع ستيفن روزن، الذي كان حينذاك كبير مسؤولي “لجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية”، الـAIPAC؛ فقال الأخير: “هل ترى مفرش الطاولة هذا؟ خلال 24 ساعة تستطيع المنظمة وضع تواقيع 70 من السناتورات عليه”.
أو، في مثال ثانٍ قدّمه يهودي ثالث، إسرائيلي هذه المرّة، هو يوري أفنيري: “لو أرادت الـAIPAC تمرير قرار يُبطل الوصايا العشر [ويقصد النصّ التوراتي]، فستضمن توقيع 80 سناتوراً في مجلس الشيوخ و300 عضو في مجلس النوّاب”!
والتاريخ يسجّل أنّ سنة 2005 تلك كانت فريدة في تاريخ الـAIPAC، لأنها شهدت غياب عزف النشيد الوطني لدولة الاحتلال خلال المؤتمر السنوي للمنظمة، على نقيض ما يحدث عادة في كلّ عام؛ وذلك بسبب افتضاح أمر اثنين من كبار الموظفين في الإدارة، عملا جاسوسين للأجهزة الإسرائيلية.
لكنّ الـ”هاتكفا” تعالى مجدداً في افتتاح مؤتمر العام التالي، وكأنّ شيئاً لم يكن، أو كأنّ مؤتمر 2005 كان الاستثناء فقط. وأمّا على المنبر فقد تقاطر للخطابة كبار رجالات الإدارة، من نائب الرئيس ديك شيني، إلى المندوب الدائم في مجلس الأمن جون بولتون، وأقطاب المحافظين القدماء والجدد نوت غنغريش وريشارد بيرل؛ صحبة أمثال نتنياهو، إيهود أولمرت، وعمير بيرتز. قبل هذا، خلال مؤتمر 2004، كان الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن قد ألقى خطبة قال فيها: “إنّ لدى أمّتنا، ولدى أمّة إسرائيل، الكثير المشترك.
كلانا أمّة فتيّة نسبياً، ولدنا في غمرة الصراع والتضحية. كلانا تأسس على يد مهاجرين فرّوا من اضطهاد ديني في بلدان أخرى. وكلانا نهض على عقائد جوهرية محددة، مفادها أنّ الله يسهر على شؤون الناس، ويحفظ قيمة الحياة”.
هذا عدا عن حلول لعنة المنظمة على فنانين عالميين يهود، طالتهم أيضاً تهمة ارتكاب “الخطيئة” الاعتراض على بعض السياسات الإسرائيلية؛ أمثال وودي ألن، الممثل والسينمائي المعروف، الذي شُنّت ضدّه حملة تشهير شعواء لأنه أعلن العجز عن هضم مشهد الجندي الإسرائيلي وهو يدقّ بالحجارة عظم فتى فلسطيني أعزل؛ وميلتون فورست، المحرر المتجوّل في مجلة “نيويوركر”، واتُهم بالتواطؤ مع الشيطان العراقي لأنه التقى مع طارق عزيز عقب اجتياح الكويت؛ ومايكل ليرنر، الحاخام المستنير ورئيس تحرير المجلة اليهودية الثقافية ـ الفكرية Tikkun، لأنّ خطّ التحرير ينتقد الاحتلال بشدّة ويؤيد الحقّ الفلسطيني.
وطيّ المليارات ثمة عاطفة انحياز، إذن، والإنفاق أهون متطلباتها؛ من جيوب دافعي الضرائب، دائماً!
القدس العربي