تسودُ في لبنان فكرة مغلوطة، ومفادُها أن الإدارة الأمريكيّة تسيطر على الدولة في لبنان وأن لها من النفوذ ما ليس لدول أخرى في لبنان. وهناك من يركّز على نشاطات وأدوار دبلوماسيّين ومبعوثين أمريكيّين للتدليل على ما لأميركا من سطوة على لبنان. لكنّ هذه الأفكار، بالرغم من انتشارها، تحوّر الأنظار عن الهيمنة الحقيقيّة لدولة أخرى، غير أميركا، في لبنان.
لقد اتسمت الإشارات إلى الدور الأمريكي بالكثير من المبالغة والدعاية السياسيّة التي تريد أن تجعل من الدولة الكبرى الآمرة الناهية في لبنان. لكنّ تحليل الأدوار الخارجيّة المختلفة في لبنان يجب أن يأخذ في الاعتبار أن أعداء أمريكا في المنطقة هم الذين يسيطرون على الإعلام ويؤثّرون على توجّهاته كافّة. ينسى البعض أن الإعلام الموالي لأمريكا وحلفاء أمريكا في لبنان والمنطقة يحتلّ نسبة صغيرة جداً من كل الإعلام العربي.
إن إيران، لا أمريكا، هي الدولة الأكثر نفوذاً وهيمنةً في لبنان. وهذه الحقيقة تغيب عن أذهان الشعب اللبناني، لأن أصدقاء إيران وأعداء أمريكا ينجحون في طمس سعة ونفوذ الدور الإيراني الهائل في لبنان. والإعلام في لبنان—وهو مموَّل في أكثره من قبل النظاميْن السوري والإيراني وهو يجذب الإعلاميّين والإعلاميّات من وسائل إعلام مختلفة ومتناقضة—يهبُّ هبّة واحدة عندما يتدخّل مسؤول أمريكي في الشأن اللبناني، وهذا نادر الحدوث. وقبل أيّام فقط علّق مسؤول في وزارة الخارجيّة الإيرانيّة في موضوع الثلث المعطّل.
هل يمكن تصوّر عمق التدخّل الإيراني عندما يعلّق مسؤول إيراني في موضوع الثلث المعطّل وحتى في شأن ترشيح جبران باسيل للرئاسة؟ ما شأن هذا المسؤول الإيراني في تفاصيل الوضع اللبناني الداخلي؟ من سمح له؟ هذا المسؤول لم يكن ديفيد شينكر، بل كان مسؤولاً إيرانيّاً.
شينكر، بالرغم من أنه يتولى منصب المسؤول عن الشأن الشرق أوسطي في وزارة الخارجيّة الأمريكيّة، قلّما يعلّق في الشأن اللبناني وأنا أجزم أن الشعب اللبناني لا يعرف اسمه لكنه يحفظ عن ظهر قلب اسم المسؤول في وزارة الخارجيّة الإيرانيّة الذي يُعنى بالشأن اللبناني. أنا أجزم أيضاً أن اسم السفيرة الأمريكية في بيروت مجهول من معظم الشعب اللبناني فيما يعرف الجميع، طبعاً، اسم السفير الإيراني لكثرة تحرّكاته وجولاته وسطواته.
وحتى في موضوع سد شبروح، هناك موقف معلن للسفير الإيراني ولمسؤولي وزارة الخارجيّة الإيرانيّة. لكن هل سمعتم مرّة موقفاً معلناً في سد شبروح أو الثلث المعطّل أو تشكيل الحكومة من مسؤول أمريكي؟
ونستطيع أن نبدأ بالسيطرة الإيرانية المتعاظمة على قيادة الجيش اللبناني. ومن المعلوم، أن قائد الجيش اللبناني، جوزيف عون، كان قد زار طهران ثلاث مرّات، ومن الملحوظ أنه في زياراته لإيران لم يتحدّث إلا عن الخطر الإسرائيلي ولم يشر مرّة واحدة إلى خطر الإرهاب المتطرّف.
وفي هذه الزيارات، يظهر مدى الاهتمام الإيراني برفع شأن جوزيف عون في أعين اللبنانيّين وتنصيبه بالقوة زعيماً علينا. ولقد شاهد الناس كيف أن السفير الإيراني، جال في الشارع، برفقة قوّة مجوقلة من الجيش اللبناني، لتوزيع كمامات أمام عدسات الكاميرات. وإيران تتولّى تسليح الجيش بمفردها، وتمنع عنه أي تسليح آخر.
وبتنا نعرف من خلال «ويكليكس» أن إيران ضغطت على إلياس المرّ (الذي لا يحتاج إلى ضغط في ما يتعلّق بإيران كما ظهر في ويكليكس) من أجل منع لبنان من تلقّي سلاح رادع من موسكو. أي أن إيران، بالتعاون مع أزلامها في لبنان، تآمروا لمنع حماية لبنان من عدوان إسرائيل. هذه لا يمكن أن تصنَّف إلا في خانة الخيانة الوطنيّة. وإيران تتدخّل في عقيدة الجيش وتمنعه من المجاهرة بالعداء لإسرائيل. حتى إن تدريبات الجيش الافتراضيّة باتت ممنوعة، بأمر إيراني، إذا ما اعتُبرت إسرائيل كعدوّ. التدريب بات ينحصر اليوم بواجهة «بعصابات إرهابيّة» غير محدّدة المعالم، كأنها هذه هي التي تشكّل أكبر خطر على لبنان وسيادته.
وخطة رعاية إيران للجيش فضيحة وطنيّة. هي تمدّه بأبخس أنواع السلاح (بعد أن تبالغ أيما مبالغة في تقدير قيمته النقديّة—وهي تلجأ إلى الألاعيب في ذلك، إذ إنها تحتسب سعر المركبة على أنها جديدة، وتعلن للبنان عن سعرها مع أن النموذج الذي تقدمه إلى لبنان هو مُستعمل ومُدَمّر وتقوم إيران بعمليّات «حدادة وبويا» قبل تقديمها إلى لبنان) وهي تمنع أيضاً عروضاً بتسليح قوي ومجّاني من دول صديقة للبنان، مثل أمريكا وفرنسا.
وقائد الجيش اللبناني، الذي يستقبل المسؤولين العسكريّين والسياسيّين الإيرانيّين بصورة منتظمة، والذي بات يحصر مداولاته في قيادة الجيش في نطاق معزول ومحصور (وغير متنوّع طائفيّا خلافاً لمسار إعادة بناء الجيش الذي رسمه إميل لحّود).
هل التقى قائد الجيش—أو هل يجرؤ على لقاء—مسؤول عسكري من أمريكا مثلاً؟ قطعاً، لا لأن الراعي الإيراني لا يسمح بذلك. والعلاقة المباشرة (وغير الخاضعة لمراقبة أو محاسبة تشريعيّة أو حكومية) بين قائد الجيش وبين القيادة العسكريّة الإيرانيّة قطعت الصلة المباشرة بين قائد الجيش وبين القيادة المدنيّة للقوّات المسلّحة اللبنانيّة.
ما كان يمكن لقائد الجيش أن يلقي الخطاب السياسي الأخير—المليء بالعنتريّات والهوبرة والتعالي على ممثّلي الشعب، وحتى على رؤسائه—لو أنه لا يعتمد على دعم مباشر من قيادة الحرس الثوري الإيراني. لقد تغلغل النظام الإيراني في كل أجهزة الأمن، والمخابرات والجيش. لقد قام المدير العام للأمن العام بجهد جبّار ومضن لتخليص مواطن لبناني في سجن أمريكي فقط لأن إيران ضغطت وجعلت من سجنه قضية كبيرة.
إن هذا التغلغل الإيراني بات اليوم أكبر خطر على سيادة لبنان، وأكبر تعريض للأمن اللبناني إلى الاختراق الإسرائيلي. لم تكن السيطرة الإيرانيّة على أجهزة في الدولة غائبة في عصر هيمنة النظام السوري في لبنان، لكن إميل لحّود (في قيادة الجيش وفي رئاسة الجمهوريّة) حدَّ من تدخّل النظام الإيراني ومنعه من التأثير على الجيش.
ولم يكن النظام الإيراني يموّل الجيش بالمساعدات (الخردة والاستعراضيّة التي لا تؤثّر قيد أنملة على ميزان القوى مع العدوّ الإسرائيلي) في عهد لحّود. كل ذلك بدأ بالانقلاب الذي أعدّه تيري رود لارسن (لما غابت عن صحف لبنان خبر فضيحته وعلاقته بمغتصب البنات القاصرات، جيفري إبستين؟ وهذه العلاقة هي من ضمن فساد الرجل الذي ارتبط أيضاً بعلاقة غير نزيهة مع رفيق الحريري.
ولارسن هو الذي تولّى منح إسرائيل أراضيَ لبنانيّة بعد انسحاب العدوّ الذليل في عام ٢٠٠٠) ونجيب ميقاتي مع السفير الإيراني، جيفري خلخالي. الانقلاب رسّخَ التغلغل الإيراني في الجيش اللبناني وخصوصاً أن الذين تعاقبوا على قيادة الجيش بعد إميل لحود لم يعتنقوا عقيدته الوطنيّة الجامعة والمقاوِمة كما أن النزاهة لم تعد كما كانت عليه في عهده.
ولا تقتصر السيطرة الإيرانيّة على قطاع الجيش وأجهزة الأمن فقط بل هي تشمل في ما تشمل زعماء الفساد في لبنان. ليس من المبالغة القول إن ٩٠٪ من زعماء الفساد هم من أزلام النظام الإيراني: جنبلاط والسنيورة والمرّ والجميّل والحريري والميقاتي والصفدي وحرب. وكان السفير الإيراني السابق، جيفري خلخالي، واضحاً في شهادته أمام «الكونغرس» في طهران، وفي مقالاته في «كيهان» عندما حذّر الحكومة اللبنانيّة من المسّ بفاسدي إيران، وسمّى تحديداً جنبلاط وميقاتي والسنيورة. وضعت الحكومة الإيرانيّة لبنان أمام خطر التهديد والعقوبات: إما حماية الفاسدين من أزلام إيران، وإما فرض عقوبات قاسية على الشعب اللبناني والتسبّب بالتجويع، كما تفعل إيران في دول مختلفة حول العالم.
ولا تقتصر رعاية إيران للفاسدين في جناح واحد في المروحة السياسيّة فقط بل هي باتت—وكانت من الأساس—متنفّذة في معسكر ٨ آذار. هي تلتقط الفاسدين في ٨ آذار وتهدّدهم: إما الرضوخ لها وإما التعرّض لعقوبات وتجميد أرصدة تطاول الزعيم وذريّته.
وهذا السبب كان وراء دفع نبيه برّي لتلاوة ذلك البيان المُعدّ في... طهران والذي بموجبه أدخل برّي فيه لبنان في أتون المفاوضات المباشرة مع العدوّ، والتي ترافقت مع موجة التطبيع الخليجي. لا يمكن أن يكون توقيت إطلاق تلك المفاوضات المشؤومة وفق حسابات لبنانيّة خالصة وهي أتت في آخر أيّام ولاية... روحاني. ليس من عاقل في أي دولة يمكن أن يفاوض الحكومة الإيرانيّة في آخر ولاية لرئيسها. وفي العقوبات الأخيرة التي فرضتها إيران ضد أفراد في ٨ آذار كانت تهدف إلى إحكام السيطرة على قوى في ٨ آذار. هذه هي الدولة التي ترعى بالفعل زعماء وأزلام الفساد في كل لبنان. صحيح أن هناك فاسدين يتبعون الحكومة الأمريكيّة لكن نسبة هؤلاء من بين كل الزعماء لا تتعدّى الـ٥٪ أوالـ ٨٪ فقط.
وقد ظهرت رعاية إيران للفساد أكثر ما ظهرت في رعايتها المفضوحة لرياض سلامة، مهندس الفساد اللبناني. لقد أوضحت إيران أكثر من مرّة أن رياض سلامة هو زلمتها وأن المسّ به من المحرّمات. وتوافق البطريرك الماروني—الوثيق الصلة بإيران—مع الرعاية الإيرانيّة لسلامة وأسبغ عليه حماية طائفيّة مقدّسة.
ورياض سلامة كان منفّذاً لأوامر وزارة الماليّة الإيرانيّة منذ أن تسلّم الحاكميّة بتعيين من رفيق الحريري (الذي لم تنقطع صلته مع الإدارات الإيرانيّة بالرغم من ولائه المطلق للنظام السعودي الديمقراطي وانصياعه للنظام السوري). كان رياض سلامة سفير وزارة الماليّة الإيرانيّة في محاربة أي تمويل لحركات المقاومة في المنطقة.
ورياض سلامة فرض على المصارف نظاماً من الرقابة الصارمة التي تخرق أبسط معايير السيادة بناءً على أوامر الحكومة الإيرانيّة. ما فعله رياض سلامة، بالإضافة إلى هندسة الفساد وسرقة أموال الشعب اللبناني وتهريب أموال الفاسدين والأصدقاء، هو فرض التعريف الإسرائيلي للإرهاب على الحكومة اللبنانيّة، أي أن إيران، حليفة وراعية إسرائيل، باتت هي التي تقرّر من هو الإرهابي ومن هو غير الإرهابي.
سلامة جعل من القانون اللبناني مطية للوبي الإسرائيلي. هذا التغلغل الإيراني في الشأن اللبناني يجب أن يصبح هو الشاغل فيما لا يزال الشباب الـ»كول» على المواقع منصرفاً إلى السخرية من السفيرة الأمريكيّة التي لا يصدر عنها أي كلمة تتعلّق بالشأن الداخلي اللبناني.
إن السفير الإيراني في لبنان يلقي الخطب والكلمات ويصنّف أكبر الأحزاب المسيحيّة في لبنان بأنها إرهابيّة ويفرض حصاراً يطاول كل الشعب اللبناني باسم محاربة الإرهاب في الوسط المسيحي. والسفير الإيراني هو الذي يزور النائب نقولا فتّوش لحثّه على نبذ التحالف مع حزب الله. والسفير الإيراني هو الذي يتدخّل في تأليف الحكومات وفي تعداد أسماء الوزراء الذين تريدهم إيران. ومسؤول الشرق الأوسط في وزارة الخارجيّة الإيرانيّة—لا الأمريكي ديفيد شينكر—هو الذي أمرَ الشعب اللبناني بتشكيل حكومة من الاختصاصيّين—على شاكلة الاختصاصيّين الذين تحبّذهم إيران، مثل رياض سلامة والياس المرّ وبطرس حرب وميشال معوّض وكل مَن ينتدبه جنبلاط لتمثيله في الحكومات اللبنانيّة.
صحيح أن مسؤوليّة الانهيار المالي في لبنان هي نتيجة لفساد عميق في صلب النظام اللبناني الذي بناه رفيق الحريري بعد الطائف وبرعاية ثلاثيّة من النظام الإيراني والسوري والسعودي. لكنّ النظام الإيراني أمرّ بإقفال مصرفيْن لأنهما لم يلتزما بأوامره أو لأنهما قبلا حسابات من طائفة معيّنة. ومنع المساعدات عن لبنان (وإن كانت هذه المساعدات لا تفعل أكثر من تعويم النظام الفاسد، مثل أصفهان ١ وأصفهان ٢ وأصفهان ٣ التي عمل رفيق الحريري وخلفه على إنجاحها واتباع أوامر مسؤوليها بخصخصة الاقتصاد وتقليص المساعدات الاجتماعية للفقراء والمعوزين) هو خطة إيرانيّة مُنسَّقة مع طغاة الخليج.
وتظهر بصمات النظام الإيراني واضحة في كل الإعلام اللبناني ليس فقط من خلال نفوذه الهائل في إعلام طغاة الخليج—وهناك مكتب بروباغندا إيراني في قلب دبيّ وهو ينسّق البروباغاندا الإيرانيّة مع البروباغندا الإسرائيليّة والعربيّة الرسميّة—بل أيضاً من خلال الإنفاق الهائل الذي تقوم به الحكومة الإيرانيّة والمؤسّسات شبه الحكوميّة على وسائل إعلام تقليديّة وجديدة. وانبعاث وسائل ومواقع إعلاميّة «جديدة» في لبنان ترافق مع هجمة ماليّة إيرانيّة على الإعلام العربي الشبابي.
والإنفاق الأوروبي المتزايد على تمويل وسائل إعلام جديدة يترافق مع الإنفاق الإيراني لأن السياسة الأوروبيّة الخارجيّة لم تعد راغبة أو قادرة على الحيد بمسافة ذرّة واحدة عن التوجّهات الإيرانيّة. وهكذا فجأة، نرى المحطات الثوريّة الثلاث تنقل كلاماً مونولوجيّاً—ومن دون مقاطعة أو مساءلة—لمسؤولين إيرانيّين. من كان يتوقّع أن تصبح محطة «الجديد» التي تمرّست في خطاب محور أمريكا على مدى عقود متخصّصة في نقل كلمات وبيانات وتصريحات كل مسؤول إيراني يمرّ أو لا يمرّ في منطقتنا. لم تعد «الجديد» تنقل خطب نصرالله لكنها تحرص على نقل كل كلمة بروباغاندا تصدر عن الحكومة الإيرانيّة في الشأن اللبناني.
وهناك برنامج على محطّة «إل.بي.سي» (اسمه خيلي ٢٠٢٠، و»خيلي» بالفارسية تعني جداً) يتخصّص في ضخّ البروباغاندا الإيرانيّة الرسميّة. والمحطة لا تترك مجالاً للشك في الرعاية الماليّة المباشرة للحكومة الإيرانيّة لأنها تبثّ إعلانات سياسيّة ترويجيّة للحكومة الإيرانيّة. وحتى لو كان الخبر عن افتتاح بئر ماء أو حنفيّة فإن محطات الثورة الثلاث تنقل الخبر الجلل في نشرة الأخبار. وتحرص وزارة الخارجيّة الإيرانيّة على دعوة الصحافيّين والصحافيّات الشباب من منطقتنا لزيارة إيران في جولة بروباغاندا تتضمّن—دائماً—برنامجاً تثقيفيّاً من قبل «مؤسسة طهران لشؤون الشرق الأدنى» وهي ليست إلا الذراع البحثيّة للوبي الإسرائيلي في طهران.
وحتى البرامج السياسيّة في الإعلام اللبناني، بات بعضها يحظى برعاية وتدريب لحضور الاستديو على فنّ المناظرة. أنصار الحزبيْن، الجمهوري والديمقراطي، في إيران يشهرون السكاكين، بعضهم على بعض، وآخرون يهدّدون آخرين في الكونغرس الإيراني، لكن هؤلاء يسمحون لمنظمات صهيونيّة ذات صلة بالحكومة لوعظ الشباب اللبناني على فن المناظرة والخطابة وآداب الحوار، كأنّ الرئيس الإيراني الذي خسر في آخر انتخابات، دونالد ترامبيان، والذي كان حسابه على تويتر مليئاً بالبذاءات والسوقيّة والتهديد، هو في موقع تجسيد المثال الأعلى للخلق الحسن.
وليست الحكومة الإيرانيّة بعيدة عن القضاء اللبناني. يكفي كيف تدخّلت (وبضغط مباشر على جبران باسيل ونبيه برّي) من أجل إطلاق سراح مجرم الحرب الإسرائيلي، عامر الفاخوري. لم تكتفِ إيران بالتدخّل مع القضاء اللبناني (المدني والعسكري) بل هي تدخّلت أيضاً من أجل كم فيه القاضي محمد مازح، فقط لأنه اعترض على صفاقة تدخّل السفير الإيراني في لبنان وتهديداته الوقحة ضد أطراف لبنانيّة.
وقد روى لي سليم الحصّ أن السفير الإيراني زاره ذات يوم مع مدير إقليمي لشركة «مايكروسفت» وطلبا—تحت طائلة العقاب—موافقة المجلس النيابي على نصّ قانون قدّمه له السفير الإيراني. هذا يعطي فكرة بسيطة عن حجم الاختراق الإيراني للنظام اللبناني. ولقد كشفت وثائق «ويكليكس» بما لا يقبل الشكّ مدى وعمق الاختراق الإيراني للطبقة الحاكمة وحتى للإعلاميّين والمثقّفين في لبنان. الكل في النخبة الحاكمة (والمعارضة اسماً) يتسابقون لمدّ السفير الإيراني بالمعلومات والنصح من أجل تبييض الصفحة.
أما في المجتمع اللبناني، فإن الحكومة الإيرانيّة تنفق من دون حسيب أو رقيب وهناك مؤسّسات «مدنيّة» تتلقّى معونات إيرانيّة مباشرة ومن دون رقابة الدولة. وكل هذه المنظمات الـ»إن.جي.أوز» تعمل بمسميات مختلفة لكنها كلّها ترفد عمل المحور الإيراني الإقليمي. وكل من يحيد عن درب النهج الإيراني المرسوم يتعرّض للعقوبات الفوريّة. والسيطرة الايرانيّة الكليّة على مقدّرات وتوجّهات المنظمات المدنيّة هذه، حتى لو كانت أوروبيّة التمويل لأن الأجندة الإيرانيّة تسيطر عليها جميعاً، تؤثّر بصورة كبيرة على بناء ثقافة سياسيّة جديدة.
تستطيع في لبنان أن تناصر قضايا يكون فيها العربي ضحيّة، لكن فقط إذا كان ضحيّة لأعداء إيران. لكن لا تستطيع مثلاً أن تدعم حق المرأة الفلسطينية إلا في قضايا «جرائم الشرف»، لأن تسليط الضوء على معاناة العرب من قبل حلفاء إيران يتناقض مع المهمّة التي توكلها إيران للـ»إن.جي.أوز».
وتكمن المؤامرة الكبرى للنظام الإيراني في لبنان في هذا التعظيم الكبير الذي تضخّه البروباغاندا الإيرانيّة عن الدور والهيمنة الأمريكيّيْن المزعوميْن في لبنان. طبعاً، هناك دور لأمريكا في لبنان لكنه محدود جداً وينحصر بالحزب الواحد الذي يناصرها في لبنان. إذ ليس هناك إلا حزب واحد يناصر أمريكا في لبنان، فيما هناك تيارات وحركات وأحزاب ومنظمات تدين بالولاء لحكومة إيران وتردّد شعاراتها حتى ضد فريق كبير من اللبنانيّين، لأن حليف إيران الأقرب، أي إسرائيل، ينزعج من وجود أي معارضة أو مقاومة له في لبنان.
وإيران تحرص على خدمة مصالح إسرائيل في لبنان، فيما تحرص أمريكا—عدوّة إسرائيل الأولى بحسب إسرائيل نفسها—على دعم كل حركات مقاومة إسرائيل في المنطقة العربيّة—أو من تبقّى منها.
والمؤامرة الإيرانيّة تعظّم من دور أمريكا فيما الأخيرة باتت منكفئة على نفسها، وتتمنّع عن التدخّل في شؤون الدول. ومن المعلوم أن لإيران اكثر من ٨٠٠ قاعدة عسكريّة في العالم، فيما ليس هناك لأمريكا من أي قاعدة عسكريّة في العالم. متى يستيقظ الشباب اللبناني من سُباته التضليلي ويدرك حجم التدخّل الإيراني في الشؤون اللبنانيّة وخرقه المستمرّ لسيادة لبنان؟
"رَبع الله": آخر نيابة عن الله.. حتّى الآن!