لا، لم يكن مستغربا أبدا ألا تحظى فضيحة التجسّس السعودي ـــ الإماراتي ـــ البحريني ـــ المغربي (بواسطة تقنيّات إسرائيليّة) بتغطية في الإعلام والمواقع العربيّة. في لبنان، زعماء من كلّ الأطراف كانوا عرضة للاختراق التجسّسي الخليجي ولا من اعتراض أو استفظاع. لكن، في لبنان لا يزالون يشيرون إلى اعتقال سعد الحريري وضربه في الرياض بـ"الحادثة". المواقع العربيّة باتت لا تقلّ انصياعا للتحالف السعودي ـــ الإماراتي عن الإعلام التقليدي، والسليط اللسان، تركي الشيخ يأمر إعلاميّين وفناني وفنانات لبنان. البيئة الثقافية والإعلاميّة كلها تلوّثت. حتى اليسار التقليدي الذي بات ليبراليّا (على طريقة "اليسار الديموقراطي" المتحالف مع الحريري والقوات والكتائب)، يتجنّب فتح المواجهة على مصراعيها مع أنظمة الخليج (أسامة سعد في مؤتمر عن التطبيع الخليجي أشار إلى التطبيع من قِبل "بعض الأنظمة"). هناك خشية اليوم في أوساط يسار لبنان ـــ حتى في أوساط الحزب الشيوعي اللبناني ـــ من أيّ ربط أو تعاطف مع إيران، إذ إن ذلك يبدو شنيعا في الذوق الشبابي العربي، خلافا للطاعة والسجود الذي يبدر عن الشباب العربي نحو أنظمة الخليج. بات الزهو بأطول برج في دبيّ أهم من الزهو بمقاومة تذلّ العدوّ الإسرائيلي في غزة وفي لبنان (والعدوّ عندما يرتدع ـــ خلافا لكل تاريخه في الصراع مع العرب ـــ يكون مذلولا ومهانا أيضا، حتى بعد سكوت المدافع. لا تحتاج إلى شنّ حرب أو إلى الدفاع عن نفسك بوجه عدوان إسرائيلي. كي تذلّ العدوّ، يكفي أن تمنعه من التفكير في شنّ العدوان. قبل عام ١٩٦٧، كانت إسرائيل تتنزّه في الأراضي السوريّة والمصريّة، قبل أن تنقضّ على الدولتيْن وتحتفظ لنفسها بما تريد). المقاومة في لبنان غيّرت سيرة صراعنا مع إسرائيل (لم يكن لدينا في الحقيقة صراع مع العدوّ قبل انطلاق المقاومات في ١٩٨٢ ـــ وكان ذلك ضدّ مشيئة كل الدولة، ثم كان ذلك ضدّ مشيئة بعض الدولة، عندما حاول رفيق الحريري بالنيابة عن رعاته الخارجيّين تعطيل المقاومة).
يحظى العدوّ اليوم بشبكة من التحالفات العربيّة لم يسبق لها مثيل. التحالف السعودي ـــ الإماراتي ـــ البحريني مع إسرائيل هو بمنزلة إعلان حرب ضدّ كل حركات المقاومة في المنطقة والعالم (ينسّق التحالف الخليجي مع اللوبيات الإسرائيليّة في العالم لمحاربة تجلّيات معارضة ومقاطعة إسرائيل). إن التعاون العسكري الإسرائيلي ـــ الخليجي لم يسبِق له مثيل: علاقة النظامَين السعودي والإماراتي بإسرائيل أقرب بكثير مما كانت علاقة إسرائيل بشاه إيران أو بتركيا في عهد الجنرالات والـ"ناتو" (طبعا، لم يرِد في الصحافة العربية خبر تعدّد اللقاءات بين نتنياهو ومحمد بن سلمان، والخبر كان من ضمن كشف تحقيقات تجسّس "مجموعة إن. إس. أو" الإسرائيليّة لحساب أصدقاء إسرائيل).
والجدال على المواقع لا يزال دائرا بين لبنانيّين حول ما إذا كان هناك "حصار" غربي ـــ خليجي ـــ إسرائيلي ضد لبنان أم لا. والمفارقة، أن الجدال يدور بين جمهور حزب الله من جهة وبين جمهور "حركة مواطنون ومواطنات في دولة" (ممفد) والحزب الشيوعي اللبناني من جهة أخرى. طبعا، لا حاجة لجدال مع جمهور اليمين التقليديّ والجديد (الذي يضمّ في ما يضمّ أحزاب اليمين التقليديّة والثاو الثاو وجماعات "المجتمع المدني" ـــ تسمية "المجتمع المدني" باتت بنفس فائدة ودقّة مصطلح "المجتمع الدولي"، الذي لا يعني أكثر من حلف الـ"ناتو"). واللافت أن أطرافا مُفترضا أن تلتقي في معاداة المؤامرة الغربية ـــ الخليجيّة ـــ الإسرائيلية، تحتاج إلى إقناع: أو أن الطرف اليساري في المعادلة، أي الشيوعيون والتقدميّون، يغوصون في بحر من المناقشات حول المصطلحات. هل ما يعانيه لبنان من أمريكا وأدواتها هو حصار أو هو عقوبات؟ كأنّ النقاش يدور في ساحة محكمة وليس على صفحات مواقع التواصل. الغريب في لبنان أن أمريكا وكلّ حلفائها يعلنون الحرب، وجهارا، ضد كلّ حركات مقاومة إسرائيل في المنطقة، وهناك من يتصنّع عدم ملاحظة تلك الحرب. والحصارات والعقوبات الأمريكية تأخذ أشكالا عديدة ومتنوّعة، ولا يُقاس كلّ حصار بالحصار الجائر الذي تفرضه الحكومة الأمريكيّة ضد كوبا، لأن ثورته انتصرت وتحرّرت الجزيرة من سيطرة الرأسمال الأمريكي. أكثر من مئة دولة في العالم تكون في أيّ وقت عرضة لعقوبات أمريكيّة. شركة "تشيكيتا بناناز" (شركة الموز العملاقة) ضغطت على الحكومة الأمريكيّة قبل سنوات كي تفرض بدورها عقوبات ضد بريطانيا؛ لأن الأخيرة تدعم الموز المُستورد من مستعمرات سابقة، ما يقلّل من أرباح تنافس شركة "تشيكيتا" الأمريكيّة. ثم إذا كانت الحكومة الأمريكيّة صريحة جدّا في فرضها عقوبات على لبنان، ما فائدة الجدال في المصطلحات؟ يأتي وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، ويقف بقرب وزير الخارجيّة اللبناني ويعلن الحرب ضد أكبر حزب في لبنان. هل يتغيّر الأمر لو كانت الحرب الأمريكيّة ضد لبنان حصارا أم عقوبات أم دبكة حائط؟
لبنان كان منذ الثمانينيّات عرضة لعقوبات شتّى الحكومات الأمريكية المتعاقبة. منعت أمريكا شركة "طيران الشرق الأوسط" (متى يتغيّر الاسم كي يصبح "شركة الطيران اللبنانيّة" لوصف الشركة التي فقدت دورها الإقليمي منذ سنوات عديدة؟) من الهبوط في أمريكا، ليس بسبب خطف الطائرات الذي توقّف قبل عقود، بل لأن أمريكا تستخدم هذه الورقة من أجل فرض التطبيع على لبنان. وكانت إدارة كلينتون صريحة آنذاك في أن رفع هذا الحظر لا يكون إلا مكافأة للتطبيع مع إسرائيل. والحكومة الأمريكيّة في عهد بايدن لم تختلف في معاداتها للبنان عن سابقتها. ها هو بادين هذا الأسبوع بالذات يُعلن تجديد مرسوم "الطوارئ" الرئاسي المُعلن من دون توقّف منذ آب ٢٠٠٧، أي بعد نحو سنة واحدة من حرب تمّوز (ما هذه الصدفة؟). المرسوم الرئاسي (وهو بمنزلة قانون) يسمح للرئيس الأمريكي باتّخاذ جملة خطوات في السياسة الخارجيّة والدفاع والاستخبارات من دون المرور بالكونغرس الأمريكي. إن إعلان "الطوارئ الوطني" ضد لبنان هو بمنزلة حرب ـــ حرب وليس حصارا ولا عقوبات ـــ ضد لبنان بسبب وقاحة لبنان في السماح لفريق لبناني بهزيمة إسرائيل في حرب تمّوز. وإعلان بايدن نطقَ باسم المصلحة الأمريكيّة واللبنانيّة على حد سواء، إذ هو وجد أن سلاح حزب الله هو خرق للسيادة اللبنانيّة و"تهديد استنثائي وغير عادي للأمن القومي والسياسة الخارجيّة للولايات المتحدة". أي لو أن لبنان انهزم في حرب تمّوز، لكانت سيادة لبنان قد تحقّقت بالكامل ـــ بالمفهوم الأمريكيّ، ولكان التهديد للأمن القومي الأمريكي قد زال. وعندما كانت إسرائيل تغزو لبنان دوريّا في الستينيّات والسبعينيّات، كانت سيادة لبنان ـــ بالمنظور الأمريكي ـــ منجزة، وكانت الحكومة الأمريكيّة (كما نعرف من وثائق رسميّة أمريكيّة أُفرجَ عنها) تعمَد إلى منع الحكومات اللبنانيّة من التسلّح، وكانت حتى تمنع لبنان من قبول مساعدات عربيّة سخيّة جدا (في عهد سليمان فرنجيّة) من أجل أن تحتفظ إسرائيل بحق الاعتداء على لبنان من دون رادع يُذكر. إن زيارات المسؤولين الأمريكيّين العسكريّين وغير العسكريّين ـــ المعلنة وغير المعلنة ـــ هي من ضمن إعلان "الطوارئ الوطني". طبعا، هناك أيضا التنسيق العالي المستوى بين الجيشَين اللبناني والأمريكي؛ لمطاردة شوالات البطاطا وأكياس مساحيق الغسيل "برسيل" على الحدود الشرقيّة. إنه الأمن القومي الأمريكي.
ليست الأزمة الاقتصاديّة والماليّة اللبنانيّة وليدة المؤامرة الخارجيّة وحدها. لا، النظام الاقتصادي الذي أرساه رفيق الحريري (المسؤول الأكبر عن الانهيار في لبنان الذي لا تزال تماثيله في لبنان قائمة، واسمه لا يرِد في هتافات شتم أم جبران باسيل) تسبّب بهذا الانهيار. وكان جنبلاط وبرّي من شركاء الحريري في النهب العام المنظّم، الذي كان برنامج إفقار للشعب اللبناني. هو نظام كان يعتمد على المسكّنات (المعونات) الخارجيّة، وكان ذلك عندما كان الرعاة الخارجيّون متوافقين ومتوائمين (النظام السوري ودول الغرب وأنظمة الخليج). لكن التوافق المذكور حول لبنان تبخّر، وتحالفت دول الغرب والخليج في مشروع حرب يمتدّ من إيران إلى لبنان (مرورا بسوريا والعراق) لقطع أوصال التحالف المضاد للمصالح الأمريكية. اقتصاد لبنان كان يمكن أن ينهار من قبل، لكن دول الغرب والخليج كانت تتدخّل (مؤتمرات "باريس" وجولات رفيق الحريري) لمنع الانهيار؛ لأن لبنان كان يقوم بمهام تخدم مصالح دول الغرب وأنظمة الخليج (وكان النظام السوري متحالفا مع الخليج والغرب على عدد من الملفّات، وكان الحدّ من نفوذ حزب الله من أحد مهام رفيق الحريري. وفي رحلة رفيق الحريري للقاء جورج دبليو بوش في عام ٢٠٠٢، كان الحريري يريد أن يقايض مساعدات للبنان، مقابل دور له في الترويج لمشروع الاستسلام العربي).
المبالغة في تصوير الحرب الأمريكية ضد لبنان، على كبرها، قد تقلل من مسؤولية الطبقة الحاكمة وتحور الأنظار عن فساد داخلي وجوْر طبقي
لكن قيمة أي دولة تتغيّر بنظر أمريكا بناء على دور هذه الدولة وإمكانية استخدامها لصالح أمريكا أو إسرائيل. دور الأردن تغيّر عبر السنوات؛ لأن الحكومة الأمريكية والإسرائيليّة باتت أقرب إلى أنظمة الخليج الوثيقة الصلة باللوبي الإسرائيلي. ودور لبنان تغيّر كثيرا عبر السنوات. في سنوات الحرب الباردة، كانت الرجعيّة اللبنانيّة سبّاقة ورائدة في محاربة الشيوعية بالنيابة عن حلفاء أمريكا. كما أن دور اليمين في النظام تعزّز بعد انطلاقة المقاومة الفلسطينيّة، عندما شاركت دول الغرب بصورة فعّالة في فوز الحلف الثلاثي الرجعي ("كتائب" و"أحرار" و"كتلة وطنيّة" ـــ ينسى البعض أن مواقف ريمون إدة لم تتغيّر إلا بعد اندلاع الحرب) في انتخابات ١٩٦٨، التي كانت الرافعة التي وصل من خلالها الفريق الانعزالي المسلّح إلى السلطة في انتخابات ١٩٧٠ الرئاسيّة. وأمريكا كانت شريكا مباشرا وقويا في الحرب الأهليّة: لم ترعَ فقط مليشيات اليمين، بل هي رعت التنصيب الإسرائيلي لبشير الجميّل وأخيه في السلطة، وتدخّلت عسكريّا لإنقاذ حكم أمين الجميّل الفاسد (ابنه يحارب الفساد بلا هوادة اليوم). وحتى في حقبة النظام السوري، حافظت الحكومة الأمريكيّة على وجود ودور لها، لكن رئاسة إميل لحّود قلّصت الدور الأمريكي؛ لأنه ـــ بعكس من سبقه وخلفه ـــ كان رئيسا مقاوِما وعنيدا في مقاومة الهيمنة الأمريكيّة لصالح إسرائيل.
لم تخلق أمريكا الأزمة الاقتصاديّة بل هي فاقمتها وعمّقتها؛ إن الدور الأمريكي في عهد ترامب في احتجاز (وضرب وركل وصفع ولكم) سعد الحريري ليس معروفا بعد، والمعروف (حسب مجلّة "إيكونومست" في حينه) أن احتجاز الحريري ترافق مع هجرة أموال كبيرة عن لبنان (الهجرة الكبيرة الأولى في الانهيار). كان ذلك جزءا من الحرب الخليجيّة ـــ الإسرائيليّة ـــ الغربيّة على لبنان. ينسى البعض في لبنان ليس فقط حدث احتجاز الحريري وضربه، بل إجباره على تلاوة بيان حرب أهليّة يتّهم حزب الله بكل موبقات الكون. وليس هناك ما يشرح الدور الأمريكي في الأزمة اللبنانيّة أكثر من شهادة جيفري فيلتمان أمام الكونغرس الأمريكي بعد الانهيار اللبناني. هو قال من جملة ما قاله؛ إن: ١) دول الخليج لا تمنح مساعدات لدول عربيّة من دون مشورة وطلب وموافقة أمريكيّة. طبعا، لأنظمة الخليج أسبابها الواضحة والمعلنة لمنع المعونة عن لبنان وللمساهمة في إفقاره. ٢) إن أمريكا جادّة في منع محاسبة أو محاكمة أي من زعماء الفساد التابعين لها (هو سمّى ميقاتي وجنبلاط والسنيورة). ٣) إن خدمة إسرائيل ومحاربة أعدائها هو الهدف الأول للسياسة الأمريكيّة في لبنان. وهذا الهدف، منذ الستينيّات، هو العامل المُقرِّر للسياسة الأمريكيّة نحو لبنان.
ليس صدفة أن شعوب إيران وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا ولبنان كلّهم يعانون من أزمة اقتصادية خانقة أم إننا نقول إن الانهيار في كل هذه الدول هو بنيويّ محض ولا علاقة لأمريكا به؟ أم نقول لأن كوبا وإيران تتعرّضان لحصار، فهذا يعني أن لبنان في منأى لأن العقوبات من نوع آخر؟
عندما تعرّض الاقتصاد السوداني لسقوط ذريع في عهد البشير، هبّ النظام السعودي والإماراتي إلى إنقاذه، لكن مقابل تحوير تحالفاته ضد حماس وإيران وحركات المقاومة. والطغمة العسكريّة الحاكمة تلقّت دعما جديدا من صندوق النقد ومن البنك الدولي بعد إعلان التطبيع مع إسرائيل (وبالرغم من هذا السخاء المفاجئ الذي هطل على السودان، فإن الشعب السوداني لا يزال يحتجّ ضد تفاقم الأزمة الاقتصاديّة. لعلّ ثمن المزيد من المساعدات سيكون استقبالا رسميّا حافلا لرئيس وزراء العدوّ). واليوم أُعلن أن الإمارات والسعودية ستعفيان السودان من ٦٠٪ من ديونها، وأن كلّا منهما ستقدّم ٣ مليارات للطغمة الحاكمة. هذه مكافأة خليجيّة للتطبيع السوداني.
إن الحديث عن المؤامرة الأمريكيّة ضد لبنان ـــ أو الحرب الأمريكيّة ضد لبنان وهي حرب إقليمية تشنّها أمريكا ضد أعداء إسرائيل وأعدائها في المنطقة ـــ لا يعفي، أو لا يجب أن يعفي المسؤوليّة الداخليّة للطبقة الحاكمة. صحيح أن الطبقة الحاكمة (رؤساء المؤسسات الدينيّة وزعماء الفساد وكبار المصرفيّين والتجار وقادة الأجهزة العسكريّة والأمنيّة وأصحاب المحطات التلفزيونيّة الثلاث) مرتهنة في أكثرها للحكومة الأمريكيّة وأنظمة الخليج، لكن مسؤوليّتها في الكثير من الفساد والقمع الطبقي، مسؤوليّة تتحمل هي تباعتها، أو يجب أن تتحمّل. صحيح أن أمريكا ترعى الفاسدين وتحميهم وتدافع عنهم، وهي المسؤولة عن بقاء رياض سلامة، خصوصا في السنوات الماضية. لكن هناك أحزاب سياسية وزعماء ومصارف وإعلام ورجال دين مسؤولون هم أيضا عن حماية رياض سلامة، وهم شركاء وحماة له في موقعه. أمريكا لن تسمح بمحاسبة رياض سلامة (لا في لبنان وفي أوروبا، بالرغم من تقارير صحفيّة. هل سمحت أمريكا برصد أموال حسني مبارك أو زين العابدين بن علي؟) لكن هناك شركاء في الداخل اللبناني يحمون رياض سلامة.
إن المبالغة في تصوير دور المؤامرة في لبنان ـــ على كبر هذه المؤامرة والحرب الأمريكيّة ضد لبنان ـــ يمكن أن تقلّل من مسؤوليّة الطبقة الحاكمة، وأن تحوِّر الأنظار عن فساد داخلي وجوْر طبقي، كان في صلب معادلة الاقتصاد الحريري الذي تشارك فيه بري وميقاتي وغيرهم في ٨ و١٤ آذار. (إن سرعة تحوّل كل أطراف ٨ آذار ـــ باستنثاء حزب الله والحزب القومي وحركة الشعب ـــ نحو النظام الإماراتي بعد إعلان التحالف مع إسرائيل يظهر مدى خضوع الطبقة والأحزاب الحاكمة لعنصر المال). حزب الله هو العنصر المُستهدف من الحرب الأمريكيّة: ليست "جمول" ولا المقاومة الفلسطينيّة هي المستهدفة. كلّما زادت فعاليّة المقاومة في لبنان ـــ أو في فلسطين ـــ ضد إسرائيل، زاد استهداف التحالف الأمريكي ـــ الخليجي ـــ الإسرائيلي لها. لم يكن وليد جنبلاط أو توفيق سلطان أو إبراهيم قليلات أو فؤاد شبقلو مستهدفين من قِبل إسرائيل كما تستهدف إسرائيل قادة "حماس" و"الحزب". (عمليّات الاغتيال ومحاولات الاغتيال التي تعرّض لها قادة الحركة الوطنيّة، بمن فيهم جنبلاط وإبراهيم، كانت من صنع محلّي، إمّا بتدبير من مخابرات جوني عبده أو مخابرات سيمون قسّيس أو مخابرات القوّات اللبنانيّة). المقاومة في لبنان تشغل أمريكا وإسرائيل؛ لأنها ببساطة فاقت كل تجارب المقاومات في المنطقة العربيّة، وهي أذلّت إسرائيل أكثر من فعل جيوش الأنظمة.
وليس هناك اليوم أي جبهة أو أي تحرّك في مواجهة الحرب الأمريكيّة. الحزب الذي يُفترض أن يقود المواجهة لا يزال يتمسّك بسعد الحريري رئيسا للحكومة: هل يمكن أن يقود الحريري الحرب المضادة ضد المؤامرة؟ وحليفا الحزب (باسيل وبرّي) خاضعان بدرجة أو بأخرى للضغوط الأمريكيّة (بالتهديد المباشر أو بالترغيب بحمايتهم من عقوبات وحفظ إرث الذريّات ـــ الذي تصيبه العقوبات لا يصبح حرّا؛ لأنه يقع في أسر محاولة الفكاك). الحزب مقيّد بحلفائه في إمكانيّة شن ردّ اقتصادي وإعلامي وسياسي ضد المؤامرة الجارية. حتى اقتصاديا، أمريكا صريحة في تهديدها: هي من ناحية لا تسمح للبنان بقليل من التعافي على طريق مدّه بمساعدات عاجلة، لكن هي لن تسمح للبنان تحت شتى الذرائع بأن يلجأ إلى خيار شرقي جدي. لكن هل قدّم الحزب مشروعا اقتصاديا شرقيّا متكاملا يمكن أن يلتفّ حوله المحتاجون في لبنان؟ حسن مقلّد يحاول أن يقدّم بعض الاقتراحات، لكن ليس هناك بعد من عروض جديّة روسية أو صينيّة لحكومة لبنان. هل زار وفد من البلديْن لبنان مقدّما للشعب اللبناني رزما من الإصلاحات؟ حتى في سوريا، وهي حليف أقرب لروسيا وللصين من لبنان، وحيث ليس هناك من فيتو أمريكي، لم تقدّم روسيا أو الصين مشروع إعمار هناك. تضمّنت زيارة وزير الخارجية الصيني لدمشق (وهي الأولى منذ عشر سنوات) مؤخرا حديثا للمرة الأولى عن مشاريع إعمار، لكن ليس هناك من اقتراح محدّد أو مشروع من ضمن "الحزام والطريق". والحزب، لأسباب تجنّب الفوضى وتجنّب صراع مع الحلفاء، يخشى من تقديم مشروع جذريّ للعدل الاجتماعي، وليست الاشتراكية في عقيدة الحزب. وقيادة الحزب لا تزال تناشد أصحاب المصارف (أدوات في الحرب الأمريكيّة) الرأفة بالناس، كما أن أمين عام الحزب برّأ قادة المصارف السارقين من المسؤولية عن تهريب الأموال، محمّلا المسؤولية لأمريكا، بأنها هي منعتهم من إرجاع المال.
لبنان حتما عرضة لمؤامرة أمريكيّة ـــ خليجيّة ـــ إسرائيليّة، لكن ليس هناك في مواجهتها من حركة منظمّة. على العكس، غياب الرد السياسي والاقتصادي المنظّم يسمح لخطاب تسخيف المؤامرة والحرب الأمريكيّة أن يهيمن.
فضيحة "بيغاسوس": المداواة بالتي كانت هي الداء
مشروع بيغاسوس: لماذا استهدفت ببرامج تجسس إسرائيلية؟