أعداد المذابح المنسية أو التي لم يسلط المؤرخون الضوء عليها ويوثقوا تفاصيلها ربما تفوق بكثير تلك التي تناولتها الدراسات والأبحاث والتقارير الدولية والأممية بشيء من التمحيص والتدقيق.
من بين هذه المذابح التي تمر كل عام دون أن تثير فيضا من التقارير الصحفية، مذبحة "بلد الشيخ" قرب حيفا الساحلية التي قامت العصابة الصهيونية "الهاغاناه" في 31 كانون الأول/ ديسمبر عام 1947 بتنفيذها في القرية وارتقى فيها نحو 60 شهيدا من النساء والأطفال وجدت جثث غالبيتهم داخل منازل القرية.
ففي أواخر كانون الأول/ ديسمبر، ثار العمال العرب في شركة مصفاة بترول حيفا على الصهاينة العاملين في الشركة بعد أن ألقت عصابة "الأرغون" الصهيونية قنبلة باتجاه عمال فلسطينيين كانوا يتجمعون على باب مصفاة النفط، وقتل 15 عاملا وجرح 42 آخرون. وانتقاما لهذه الجريمة قتل العمال الفلسطينيون عددا من العمال الصهاينة في مصانع مصفاة النفط قدر عددهم بنحو 41 قتيلا.
كان قسم كبير من العمال العرب في المصفاة يقطنون قريتي "بلد الشيخ" و"حوّاسة" الواقعتين إلى الجنوب الشرقي من حيفا بمسافة خمسة كيلومترات على طريق حيفا الناصرة والمجاورتين لمستعمرة "نيشر" الصهيونية شرقيهما، لذلك خطط الصهاينة للانتقام لقتلاهم في المصفاة بمهاجمة "بلد الشيخ" و"حوّاسة".
نفذ الصهاينة بعد حوالي أسبوع من حادثة المصفاة خطة للانتقام ولإشاعة الذعر وبث الخوف بين العرب من أجل تهجيرهم من قراهم وإخلاء فلسطين. وبدأ هجومهم بعيد منتصف الليل وكان عدد المهاجمين بين 150 و200 مهاجما قدموا من التلال الواقعة جنوبي "بلد الشيخ" وقد ركزوا هجومهم على أطراف "بلد الشيخ" و"حوّاسة"، ولم يكن لدى العرب آنذاك السلاح الكافي، ولم يتعد الأمر وجود حراسات محلية بسيطة في الشوارع.
فاجأ الصهاينة البيوت النائية في الأطراف وقذفوها بالقنابل اليدوية ودخلوا على السكان النائمين وهم يطلقون نيران رشاشاتهم. واستمر الهجوم ساعة انسحب إثرها المهاجمون بعد أن هاجموا حوالي عشرة بيوت، وراح ضحية ذلك الهجوم نحو 60 شهيدا معظمهم من النساء والأطفال وعدد من الجرحى.
وترك الصهاينة المهاجمون خلفهم عددا من الرشاشات والقنابل والذخائر، وشوهدت بقع دماء دلت على تصدي الحرس المحلي لهم بما كان يحمل من سلاح متواضع.
وفي 7 كانون الثاني/ يناير عام 1949 أخليت قرية "بلد الشيخ" واحتلت في 22 نيسان/ أبريل مع احتلال مدينة حيفا، بعد أن هددت "الهاغاناه" سكان القرية إن لم يسلموا أسلحتهم بأنها ستقتحم القرية.. سلم السكان 22 بندقية وطلبوا هدنة، إلا أن "الهاغاناه" رفضت ذلك وطالبت بتسليم باقي الأسلحة، وعند الساعة الخامسة صباحا فتحت النيران ومدافع الهاون على القرية، وأخلت القوات البريطانية القرية وغادر من تبقى من السكان المذعورين إلى مدينة عكا.
وتبعد "بلد الشيخ" عن مدينة حيفا نحو 7 كم ويعود اسمها نسبة إلى الشيخ السهلي الصوفي، حيث منحه السلطان سليم الأول يوم الفتح العثماني جباية القرية. بلغت مساحة أراضيها 9849 دونما. ويقع نصف أراضيها تقريبا في مرج ابن عامر والباقي في جبل الكرمل.
قدر عدد سكانها عام 1922 بحوالي 407 نسمات، وفي عام 1945 ارتفع إلى 4120 نسمة، وتحتوي القرية على آثار محلية وصهاريج، كما أنها تضم قبر المجاهد العربي السوري عز الدين القسام الذي استشهد في القرية وكان استشهاده أحد عوامل اندلاع ثورة فلسطين الكبرى.
كانت ثاني كبرى القرى في قضاء حيفا بعد "الطيرة"، وكان في القرية محطتا وقود وعدد من المقاهي، وأقيمت فيها مدرسة ابتدائية عام 1887 في العهد العثماني، ومع حلول عام 1948 كان في القرية ثلاث مدارس ومعصرة يدوية، وكان أهالي القرية يعملون في زراعة وفلاحة الأرض وتربية المواشي وقسم كبير منهم كان يعمل في المصانع في حيفا.
تشير الوثائق والخرائط والشهادات إلى مركزية هذه القرية من حيث موقعها الجغرافي، وعدد سكانها، ومكانتها الاقتصادية والسياسية في فلسطين. فسكنها بالإضافة إلى أهلها الأصليين، مئات العمال من جميع أنحاء فلسطين، وربطتها سكة الحديد وخطوط الحافلات مع المدن المركزية في الشمال.
استوطن الصهاينة القرية عام 1949 وأطلقوا عليها اسم "تل حنان" وهي الآن جزء من مستعمرة "نيشر". لم يبق من القرية سوى بيتين لعائلة السهلي تحولا فيما بعد إلى كنس يهودية في حارة "الراف موحا"، ومقبرة القرية المدفون بها عز الدين القسام بجانب ملعب "نيشر"، وما زالت مقبرة عائلة السهلي شمال القرية محاطة بسور وتقع خلف المدرسة، وما زال هناك بيت في الحارة الغربية قائم وآخر مهدم تعلوه الأشواك البرية.
المراجع:
ـ الموقع الإسرائيلي زوخروت (ذاكرات).
ـ وليد الخالدي، "كي لا ننسى". مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
ـ ايلان بابيه، "التطهير العرقي في فلسطين".
ـ مصطفى مراد الدباغ، "بلادنا فلسطين"، الجزء السابع.
ـ كتاب "تاريخ الهجناه".
- الموسوعة الفلسطينية.
مصطفى بن جعفر لـ "عربي21": هذه قصتي مع فلسطين
"السُمْاقِيّة" أكلة تُراثية فلسطينية لا يطبُخُها إلا الغزيون
مثلث حيفا.. قصة صمود فلسطيني ورعب صهيوني