(1)
شاع مصطلح "الأزمة
الخليجية" في منتصف عام 2017، إثر إذاعة تصريحات منسوبة إلى أمير
قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، نقلها الإعلام الموالي لدولة
الإمارات والمملكة
السعودية عن "وكالة الأنباء القطرية"، وثبت (خلال ساعات) أنها تصريحات "مدسوسة" على أمير قطر، من قِبَل "هاكرز" دوليين استأجرتهم "دول جوار خليجية"؛ لاختراق موقع "قنا" وتنفيذ هذه المهة الخسيسة، حسبما أظهرت التحقيقات الجنائية لاحقا! وقد تعاملت قطر بدبلوماسية عالية للغاية مع هذا الملف شديد الحساسية، منذ بداية "الأزمة"، حتى إنها لم تُسَمِّ هذه الدول في تصريحات مسؤوليها، رغم أن رجل الشارع كان يعرفها تماما!
أما عن تكاليف إدارة هذه "الأزمة"، فأحسب أن وحدة حسابها هي "التريليون" دولار، وليس "المليار". والتريليون يساوى "ألف مليار" كما هو معلوم! وأحسب (أيضا) أن قطر والإمارات والسعودية هي التي تحملت هذه التريليونات! أما ملك البحرين والسيسي (ولا أقول البحرين ومصر)، فقد كانا ضمن "المستفيدين" الذين باتوا أكثر من أن يُحصَوا (دول، شركات تجارية، مصانع أسلحة، وكالات علاقات عامة، صحف، محطات تلفزيونية، مواقع إلكترونية، منصات تواصل اجتماعي، كُتَاب، صحفيون، مرتزقة وسماسرة.. إلخ).
في بداية كانون الأول/ ديسمبر الجاري، احتل مصطلح "المصالحة الخليجية" عناوين الأخبار، لا سيما في إعلام الخليج الموالي للكويت وقطر. أما الإعلام الموالي للسعودية، فقد أتى على ذكر "المصالحة" باقتضاب واضح، بينما حظيت هذه الكلمة بالتجاهل (شبه التام) في الإعلام التابع للإمارات. وقد تردد (كثيرا) أن أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر، قد سعى سعيا حثيثا، منذ اندلاع هذه "الأزمة"، لاحتوائها والتقليل من آثارها، وواصل خلفه الشيخ نواف الأحمد ما بدأه الأمير الراحل؛ لحل "الأزمة" وتحقيق "المصالحة" المأمولة.
ولن أكون متشائما إذا قلت إنه لن تكون هناك "مصالحة"، وإنما ستكون هناك "تسوية"، سيقبل بها الجميع بدرجات متفاوتة، وستنصاع لها كل الأطراف بدرجات متفاوتة أيضا، أما النفوس فستبقى مشحونة، كما كانت مشحونة على الدوام، منذ الجاهلية الأولى! فالمجتمعات الخليجية لا تزال تفكر وتُدار بمنطق القبيلة، حتى وإن أدخلت (على نُظُمِها الإدارية) بعض المسميات التي تضفي عليها صفة الدولة، مثل رئيس الوزراء، والوزير، والمدير.. إلخ!
ولنعد إلى التاريخ البعيد الذي لا يزال يلقي بظلاله (رغم بُعده) على الحاضر، بصورة أو بأخرى؛ لنقف على منطق الشخصية القَبَليّة وتفكيرها، قبل أن يَمُنَّ الله على العرب بالإسلام، فجعل منهم أمة وحضارة، بعد أن كانوا قبائل متناحرة، تائهة في الصحراء، تقتتل لعشرات السنين لأتفه الأسباب! ذلك المنطق الذي لم يكن يقيم أي اعتبار لـ"الآخر"، ولا يعترف بأي حق من حقوقه، والكلمة الفصل (حينذاك) كانت للسيف، ولا تزال!
(2)
وَأَنَّـا المَانِعُـوْنَ لِمَـا أَرَدْنَـا وَأَنَّـا النَّـازِلُوْنَ بِحَيْثُ شِيْنَـا
وَأَنَّـا التَـارِكُوْنَ إِذَا سَخِطْنَـا وَأَنَّـا الآخِـذُوْنَ إِذَا رَضِيْنَـا
وَأَنَّـا العَاصِمُـوْنَ إِذَا أُطِعْنَـا وَأَنَّـا العَازِمُـوْنَ إِذَا عُصِيْنَـا
وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْـواً وَيَشْـرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَـا
هذه الأبيات الأربعة تجدها في الأبيات العشر الأخيرة من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي، الشاعر الجاهلي الذي توفي في نهاية المئوية السادسة لميلاد السيد المسيح عليه السلام (39 ق.هـ / 584 م).. أي يفصلنا عن المناسبة التي قيلت فيها هذه القصيدة، ما يربو على 1480 سنة!
وقد أنشد عمرو بن كلثوم هذه الأبيات التي خلّدها العرب، فكانت خامس المعلقات في الكعبة المشرفة، في حضرة عمرو بن هند، ملك الحيرة، أثناء انعقاد مجلس لحل خلاف بين قبيلتي بكر وتغلب (التي تزعمها بن كلثوم، وهو في سن الخامسة عشرة)، وقد اعتبر ابن هند هذه القصيدة تحديا وإهانة له، بسبب لهجتها الاستعلائية القاسية!
وعلى الرغم من الإسهاب في الفخر، والإسراف في الاستعلاء في شعر ابن كلثوم، غير أني لم أجد ذِكرا في معلقته (مئة بيت) لامرأة من قبيلة بكر، ناهيك عن أن تكون هذه المرأة زوجة زعيم القبيلة، أو أمه أو أخته! ولم أجد ذِكرا (بسوء) لزعيم قبيلة بكر! أو وصفا دنيئا له، كما فعل حمد المزروعي (مطارزي محمد بن زايد وظله) بأمير قطر ووالدته، على مدى ثلاث سنوات! وما كان للمزروعي ولا لغيره من الذباب الإلكتروني (الإماراتي والسعودي) أن ينحط إلى هذا الدرك الذي ترفّعَت عنه الجاهلية الأولى، إلا بأمر مباشر من محمد بن زايد آل نهيان، المغتصب لمنصب "ولي عهد أبوظبي" بالمخالفة للنظام الأساسي لإمارة أبو ظبي، والمستولي (عُنوَة) على منصب "رئيس دولة الإمارات" بالمخالفة للدستور، فابن زايد ليس سوى "ولي عهد"، وليس "حاكم إمارة"! أي أنه ليس عضوا في "المجلس الأعلى" الذي يضم "حكام الإمارات السبع"، ويدير الدولة، ولو "نظريا"!
وإنه لمن المعيب جدا أن أتطرق (بعد حديثي عن معلقة ابن كلثوم) للحديث عن "نشاز" قيل إنه أغنية، اختاروا لها عنوان "عَلِّم قطر"! حشدوا أو استدعوا "نجوم" الغناء السعودي لتأديتها.. كما أنه ليس من المروءة (اليوم) التذكير بـ"شروط دول
الحصار" التي وُضِعت لتمريغ أنف قطر، بعد أن أضحت سرابا، إذ لم تستطع هذه الدول (مجتمعة) فرض شرط واحد من تلك الشروط، بعد مرور ما يزيد على ثلاث سنوات من الحصار، ورغم إنفاق "تريليونات الدولارات" على تحضيرات الغزو الذي فشل قبل أن يبدأ، ثم الحصار.
(3)
لقد كان للجاهلية الأولى "خطوطها الحمر" التي يحترمها الجميع.. كانت هذه الخطوط عُرفا مقدسا له قداسة "العقيدة" وقوتها، لا يشذ عنها ولا يخرج عليها ولا يكفر بها إلا "وضيع" أو "سفيه" أو "صعلوك"! أما "جاهلية اليوم"، فأهلها (ويا للأسف) "مسلمون"، ورعاتها والمروجون لها يحملون من الأسماء ما حُمِّد وما عُبِّد.. وأكبر رأسين بين هؤلاء يحملان اسم الرسول "محمد" صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه ربه بـ"مكارم الأخلاق" وأرسله "رحمة للعالمين"، وكان "قرآنا يمشي على الأرض"! فأين من جنابه العظيم ومقامه الشريف هذان اللذان يحملان اسمه، ولا يبديان أي قدر من الاحترام لرسالته الخاتمة لكل رسالات السماء؟!
أما لماذا "الحلزونة" وليس "التسوية"، فلأن الحلزونة تبدأ كل حلقة فيها عند نهاية الحلقة السابقة لها، وما كانت "الأزمة الخليجية" الأخيرة إلا "حلقة" من حلقات "حلزونة" عمرها مئات السنين، في هذه المنطقة الجغرافية، تُضاف إليها حلقات (أزمات) باستمرار، بغض النظر عن المدة التي تفصل بين نهاية كل حلقة، وبداية الحلقة التي تليها! وأجزم أن ابن زايد قد شرع (بالفعل) في حياكة "دائرة جديدة" في "الحلزونة الخليجية"، إن لم يكن أكثر! فهو لن ينسى للكويت عرقلتها غزوه لقطر، والسعودية يجب أن تجدّ السّير وتحث الخُطا في مسار "التضاؤل" والتقزّم" الذي رسمه لها، والذي دشنه بتصعيد محمد بن سلمان؛ لاحتلال العرش السعودي، ضاربا عرض الحائط بـ"نظام الاستخلاف" المتوافق عليه هناك!
لا يمكن (بأي حال) اعتبار "المصالحة الخليجية" المرتقبة حلا نهائيا لـ"الأزمة الخليجية" الحالية التي سببها الأساس "العقدة القطرية" لدى ابن زايد وابن سلمان! أما سبب هذه العقدة (في تقديري) فهو "الغيرة" من قطر و"الحقد" عليها! ولا شيء غير ذلك! فهذان يريان قطر (كغيرهما) كبيرة رغم صِغرها، قوية بلا أنياب أو مخالب! ناجحة دون تحايل أو نصب! بأموالها خلقت مصالح ممتدة، ونسجت تحالفات متينة! بينما لا تجد سوى الخراب والدم والدموع أينما حل ابن زايد!
لن تتحقق مصالحة خليجية (حقيقية) ما دامت السلطة بيد ابن زايد في دولة الإمارات، ومادام المنطق الجاهلي سائدا، وحاضرا في كل خلاف! المصالحة (الحقيقية) في الخليج تتحقق (فقط) عندما يعترف الجميع (بصدق) بحقوق الجميع، وهذا الاعتراف لا يصدر إلا عن قلوب سليمة، انحاز أصحابها للأمة وقضاياها، لا إلى أعدائها وأطماعهم.
twitter.com/AAAzizMisr