تستصدر الحكومة السعودية من هيئة كبار علمائها؛ بيانا يصف جماعة الإخوان المسلمين بأنها جماعة إرهابية تتبع أهدافا حزبية مخالفة للإسلام، وتنشر الفرقة وتثير الفتنة والعنف والإرهاب، ثم تأمر الحكومة خطباءها بنشر مضمون البيان من على منبر الجمعة، وتخصّص رقما هاتفيّا للتبليغ عن الخطباء غير الملتزمين بالتعليمات.
المشهد في حدّ ذاته موحٍ وكأنّ حدثا جسيما قد اقترفه "الإخوان المسلمون" للتوّ، ممّا أظهر عقيدة الوطنية السعودية الجديدة تبدو وكأنها ترتكز إلى العداء للإخوان، بيد أنّه لا جديد قد حصل، الأمر الذي يذكّر بحملات الذباب الإلكتروني السعودي المعادية للفلسطينيين، التي بدأت قبل سنوات فجأة بلا مقدّمات، وفي فراغ من أيّ صدام فلسطيني سعودي، لتؤكّد الأيام التالية أنّ تلك الحملة لم تكن إلا في سياق التمهيد للتحالف الشرق أوسطي الجديد، الذي بشّرت به قمة ترامب في الرياض في أيار/ مايو 2017، ولم يكن يعني، كما أثبتت الوقائع، سوى الاندماج مع "إسرائيل" في مشروع واحد، بالتأكيد لن تكون القيادة فيه إلا لـ"إسرائيل".
في الوقت نفسه، أي بالتزامن مع الحملة السعودية على الإخوان النابتة في الظاهر في فراغ من المسوّغات، كانت شركة طيران الاتحاد الظبيانية تنشر مقطعا ترويجيّا لزيارة الكيان الإسرائيلي، تعرض فيه الهيكل الصهيوني، وتنسب فيه التراث الفلسطيني للصهاينة، في التحام كامل مع الرواية الصهيونية، ونفي للفلسطيني وجودا وتاريخا، وتطبيق حرفيّ للدعاية الصهيونية التي أسست كيانها على ادعاء أنّ فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. وهكذا يتضح أنّ الأثمان المقدّمة عربيّا في إطار التحالف الصهيوني فادحة جدّا، وإن كان البعض ربما قد انصهر نفسيّا في التحالف الصهيوني إلى الدرجة التي لا يرى فيها هذا الانسلاخ المريع من الذات العربيّة الإسلاميّة ثمنا فادحا، وإنما هو تعبير عن مشاعر مكبوتة من كراهية الذات، والشوق للذوبان في الصهيوني؛ أو في التعبير الغربي عن نفسه في منطقتنا من خلال الكيان الصهيوني!
العلاقة بين تجريم الإخوان وتكثيف الحملات ضدّهم، وبين التصهين الصريح والكامل، الذي ربما يفوق الصهيونية الأصلية حماسة، ينبغي أن تكون واضحة، وتتحدث عن نفسها، لا من حيثية التزامن فحسب، وإنما من حيثية التلازم أيضا. فالإمارات التي فقدت توازنها تماما فيما يخصّ العلاقة بالكيان الصهيوني، وأظهرت خفّة عجيبة في الاندلاق عليه، هي الأكثر شراسة في العداء للإخوان، ودعم أيّ مشروع في العالم لملاحقة التجلّيات الحركية للنشاط الإسلامي، ولو طالت الإسلام نفسه وعموم المسلمين.
وإذا كانت السعودية قد تبعت الإمارات في هذا العداء، فإنها تتبعها أيضا في حملاتها التي تستهدف مسخ القضية الفلسطينية. فمع دعاية طيران الاتحاد التي روجت للهيكل الصهيوني؛ كانت صحيفة عكاظ السعودية تنشر مقالة تنفي وجود المسجد الأقصى في فلسطين، في تقليد رثّ ورديء لما سبق للروائي المصري يوسف زيدان قوله، سرقة عن المؤرخ الصهيوني مردخاي كيدار. وقد سبق لي المساهمة في الكشف عن طبقات الجهل والكذب والدجل في هذا الادعاء، في مقالة منشورة قبل سنوات خمس بعنوان: "يوسف زيدان.. تلميذ مردخاي كيدار في أحضان السيسي!".
هذا التزامن هو وليد التلازم، فبالرغم مما يمكن قوله لتفسير هذه الهجمة المستجدة على جماعة الإخوان، من قبيل التمهيد للمزيد من الإجراءات القمعية بذريعة ملاحقة الإخوان، وتفكيك حملة مقاطعة البضائع الفرنسية، وإشغال المواطنين وحشدهم حول قضية سياسية تخدم الحاكم ويملك أدوات ضبطها، واستثمار طبقة منسلخة عن قيم مجتمعها محيطة بالحاكم لفرض أجندتها ونوازعها النفسية وتفريغ أحقادها، ودغدغة الغرائز الغربية برفع يافطة "الحرب على الإرهاب"، وفرض وقائع تسبق استلام الإدارة الأمريكية الجديدة مهماتها، وما سوى ذلك مما يمكن قوله في الدوافع التكتيكية لهذه الحملة، فإنّ الأساس في الحملة على الإخوان، والتي هي جزء من الحملة على تراث الصحوة، هو إعادة صياغة الهوية، ومركزة الوطنية الجديدة على أسس مغايرة، وهو أمر ملازم للتحالف مع "إسرائيل".
ثمّة مقدّسان يضربان جذورهما في عمق الجماهير العربية، مهما تفاوتت درجات ظهورهما وتأثيرهما بين الأزمنة، ولكنهما عميقان بحيث لا يمكن نزعهما، وفاعلان بحيث يشكّلان دائما الروافع التعبوية لتلك الجماهير، هما الإسلام وفلسطين، وبينهما ترابط معلوم، وكلاهما يعرّيان الاصطفاف مع "إسرائيل"، ويخيفان الاستبداد العربي، ويقلقان تحالفاته، مما يستدعي من منظومة الاستبداد المتحالفة مع "إسرائيل" فكّ التلازم بينهما، ثمّ إعادة صياغة وعي الجماهير نحوهما. وإذا بدت للاستبداد مهمة مسخ القضية الفلسطينية أسهل، فسارع في الوصول إلى نهايات ما يريد في هذا الشأن، فإنّ مسخ الإسلام وتفريغه من مضمونه يحتاج مقدّمات، منها ربط أهمّ القضايا المقلقة في الإسلام للاستبداد بالجماعات الإسلامية، ثم بالتنويع على أدوات الضبط والتأويل والدعاية الدينية، لا بهدف ضرب الجماعات الإسلامية فحسب، بل وبهدف تفكيك القضايا الدينية المقلقة للاستبداد، وجعل ضرورات الإسلام محلّ نقاش.
سبقت مصر في إعلامها، بما في ذلك أقنيتها المتلفزة، إخضاع ضرورات الدين للتشكيك، بينما موّلت الإمارات عدّة اتجاهات دينية، مدخلية وتقليدية صوفية وحداثية، على ما بينها من تناقضات، لدفع الإسلاميين عن مساحاتهم، وإحلال غيرهم في تلك المساحات على نحو يمكن ضبطه والتحكم به، ويمكن به أيضا فسح المجال لإعادة النظر في ضرورات الإسلام التي تجعل منه دينا. وقد وصلت في ذلك حدّ الإعلان عمّا أسمته "البيت الإبراهيمي"، الذي يتكون من ثلاثة معابد للديانات الثلاث، بهدف إزالة التمايز الذي يجعل أيّ دين دينا، ثمّ سمّت اتفاقها مع الكيان الصهيوني "اتفاق أبراهام"، بما يؤكد رؤية التلازم التي نحلّل بها سياساتها.
وإذا كانت السعودية، لحساسية موقعها، وجسامة دورها، لا تعلن عن هذه السياسات من خلال الحكومة، باستثناء ملاحقتها للإخوان والصحوة، فإنّها تطلقها وتدعمها بأدوات غير رسمية في الظاهر، من خلال شخصيات إعلامية وثقافية يفسح لها المجال العام، وتمنح المساحات في الإعلام السعودي، هذا فضلا عن ذبابها الإلكتروني. فلا غرابة والحال هذه في تزامن هجمات شخصيات سعودية على المسجد الأقصى وسنة النبي صلّى الله عليه وسلم!
إذن، فالهجمة على الإخوان قنطرة للنيل من ضرورات الإسلام نفسه، ليس لأنّ الإخوان ممثلون حصريون أو كاملون للإسلام، ولكن، وكما سلف قوله، بربط قضايا الدين المقلقة للاستبداد بهم، لتسهيل تفكيكها بذريعة ضربهم. ثم هذه الهجمة من لوازم التحالف مع "إسرائيل"، ولا ينبغي أن نغفل بعد ذلك، عن الترحيب الإسرائيلي بالحملة السعودية على الإخوان!
twitter.com/sariorabi