قضايا وآراء

من يرعى وعد بلفور؟

1300x600
تمر ذكرى وعد بلفور المشؤوم هذه الأيام، وبعد قرنٍ وثلاث سنوات، لم يعد طرح السؤال أمرا مغريا: كيف تمت خديعة أصحاب الأرض، وكيف كان شعار اللصوصية الصهيونية: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، ينفذ تحت وعد من لا يملك لمن لا يستحق، أمرا نافذا؟ وهو يخفي ألغازا وإجابات، طالما أوهم النظام العربي شعوبه بها. وعلى مدار قرن بلفور الماضي، كانت تلك الألغاز تتكشف أمام الفلسطيني في كلّ لحظة وتتفكك، وقد قادت مجتمعة إلى الإشارة للأسباب الحقيقية التي تُوّجت بالخديعة التي أوصلت أصحاب الأرض إلى نكبتهم المستمرة؛ بدعائم عربية اهتزت في العقد الأخير من قرن بلفور.

المشروع الصهيوني بحاجة إلى حمايةٍ ودعم، إن كان وعدا أو مستعمرة قائمة فوق الأرض المغتصبة، وهو ما أنجز من مؤتمر بازل إلى وعد آرثر بلفور، وزير خارجية بريطانية آنذاك، كمقدمة لإقامة المستعمرات الصهيونية فوق أرض فلسطين لتتوج بالنكبة مع قيام هذا الكيان. تحقيق الوعد والنبوءة لن يكون راسخا في المنطقة، بدون دعائم خفية قادت لهزيمة النظام الرسمي العربي ومن ثم تثبيت ديكتاتورية عربية في العواصم الفاعلة، لحماية وتأمين الوعد واستمراره.

ما عاشته الشعوب العربية في القرن الماضي، في تكرار تذكر مناسبة وعد بلفور، والحديث المستفيض عن دور بريطانيا آنذاك في تمكين المشروع الصهيوني على الأرض، وإخفاء الدور الذي لعبته الأنظمة العربية وحكامها في تسهيل المشروع الصهيوني؛ انكشف وتعرى بشكل مخزٍ.. انكشاف يجرف معه كل التزوير الذي حاول من خلاله العقل الصهيوني تكريس أكاذيب وأساطير أعاد حملها غلمان السياسة والحكم في عالم العرب، من خلال الإعلان الصريح عن دعم المستعمرات الصهيونية ورغبته في توسيعها على حساب أصحاب الأرض، إضافة لتجفيف كل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات العربية الواقعة تحت أنظمة النهب والقمع.

تشييد المعتقلات وسوق مئات الآلاف إليها، وقتلهم تحت التعذيب، وتدمير مدن وأرياف عربية في سوريا واليمن ومصر والعراق؛ يخدم الوعد ويسهل ترسيخه على الأرض. وكذلك التأرنب أمام كلّ جولات العدوان الصهيوني، والاستئساد على الأطفال النساء، والتطهير العرقي الذي تمارسه "جيوش عربية" قيلت عنها في الماضي أساطير الأكبر والأقوى، مع حكايا انتصاراتها لتسويق أكاذيب فرض السطوة والقوة على مجتمعاتها، من دبابات وصواريخ وطائرات مواجهة الوعد والنكبة والنكسة، وإقامة "التوازن الاستراتيجي" وعمليات تمويل صفقات التسليح الضخمة التي تغنّى بها طغاة سوريا ومصر سابقا.

وتتبارى أنظمة التصهين في أبو ظبي والرياض لتحقيق انتفاخ في جيوب الإدارة الأمريكية، بدا أثرها جليا، ليس لاستعادة الأرض المحتلة، بل لتكريس واقعها "محتلة للأبد"، ولمحاربة العربي الذي يجهر بوقوفه ضد الطاغية والاستعمار الصهيوني.

آلاف وملايين الأدلة والأسباب غير المرتبطة بالسلاح، تشير إلى مسؤولية النظام العربي الذي أكثر من صراخه على سايكس بيكو، ويمارس على أرضه ما هو أبشع منها، عدا عن الخدمات التي قُدمت وتقدم اليوم للمستعمر الصهيوني "ليتفاخر" بها أمام دونية الإعجاب العربي المتصهين.

كل الملفات التي عبث بها نظام الأسد مع ما نشهده في عواصم عربية مختلفة، بدءا من تكريس الخوف والقمع والقهر، إلى استزلامٍ ومتاجرةٍ بالقضية الفلسطينية والمزايدة على الفلسطينيين والتآمر عليهم، وصولا إلى ما شهدته سوريا من مذابح وتدمير مسكوت عنه مقابل وظيفة كرسي الحاكم العربي للقمع.. يعجز بلفور نفسه عن تخيل "وعده" أمام عظمة التصهين التي يحققها بلافرة العرب، ولمّا كان الفضل كبيرا للأسد الابن في تسهيل تمرير التصهين الحاصل بالتطبيع مع جرائمه ووحشيته ضد الفلسطينيين والسوريين، وانكشاف دوره مع العصابة الحاكمة في تأمين هذه الهزيمة في القاهرة وأبو ظبي والرياض والخرطوم واستمرارها، كان الرد داميا على السوريين واليمنيين والمصريين والعراقيين والسودانيين، وكانت وحدة وصلابة الثورة المضادة تترك الأثر العميق الذي يحاول إخفاء بلفور وباروخ غولدشتاين.

في هذه الأيام التاريخية في مأساويتها وحراجتها، لم يعد اللسان معقودا كما في عقود تذكر الوعد المشؤوم والنكبة والهزيمة، التي عملت على شلّ التفكير بوظيفة وأداء الأنظمة القمعية. تدفع الأحداث إلى مزيد من التفكر والتعمق، كي يتأكد الفلسطيني والسوري والمصري واليمني والعراقي وكل إنسان عربي أنه لم يُخطئ في خياره بالثورة على أنظمةٍ لم تزل سببا لكل الكوارث.

هزيمة الوعي والذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني والعربي، ومقاومة عفويته وبداهته المليئة بالأسى وهو يفتش في حنايا ذاته عن نقيض المعاني التي جُلد بها جسده المتعب وذاكرته المتقدة بالحسرات والآلام، هي التي تحاول أنظمة تعتبر نفسها "متبلفرة" أكثر من بلفور لتكريسها واقعا يهزم الوعي، فآباء الفلسطينيين وأجدادهم والعرب الأقحاح أوكلوا لهم وعيا مكللا بتاج الوعي الجمعي، عمن يحمي وعد بلفور ومن يحمي سايكس بيكو ويحافظ عليها وينفذ حذافيرها، والذين أوكلت لهم هذه المهمة هزوا قلاع الطغاة في المنطقة، وإن لم يسقطوها فدعائم الطغاة لن تُحمى بوعد صهيوني.

twitter.com/nizar_sahli