لا شك في أن الموقف التركي كان الأقوى إقليمياً تجاه
التطبيع- التحالف
الإماراتي الإسرائيلي نتيجة العلاقات المتأزمة أصلاً مع الإمارات التي تجاوزت حجمها حسب التعبير السياسي التركي الدارج، كما نتيجة فهم واستيعاب أنقرة لدلالات التطبيع- التحالف وتداعياته
الفلسطينية والإقليمية أيضاً.
الرئيس رجب طيب أردوغان أعلن عن دراسة تعليق العلاقات مع الإمارات أو تخفيض مستواها، وربما سحب السفير التركي من أبو ظبي. وعموماً بدا التطبيع- التحالف وكأنه القطرة التي أفاضت كأس العلاقات المتعكرة والمتأزمة بين الجانبين خلال الفترة الماضية، نتيجة سياسات الإمارات المسعورة التي تدخلت في ساحات بعيدة عنها ولا علاقة لها بها، فقط للكيد لتركيا والأحزاب والحركات الإسلامية، في سياق يائس لإعادة إنتاج أنظمة الاستبداد والفساد التي أسقطتها الثورات العربية الأصيلة.
تدخلت الإمارات في سوريا (جارة
تركيا) بغرض استفزاز هذه الأخيرة وحتى استنزافها، وقدمت رشوة لبشار الأسد (في آذار/ مارس الماضي) من أجل كسر وقف إطلاق النار في إدلب ودفع ملايين اللاجئين للنزوح باتجاه الحدود التركية، وخلق أعباء أمنية واقتصادية على الحكومة التركية، كما سعت لإعادة تعويم نظام الأسد وإعادته إلى الجامعة الغربية؛ ضمن سياق عام لإعادة إنتاج أنظمة الاستبداد والفساد التي أسقطتها الثورات العربية.
ولم يكن غريباً ولا مفاجئاً أيضاً أن يتم الكشف عن تواطؤ حاكم الإمارات محمد بن زايد وحاكم السعودية محمد بن سلمان؛ لتشجيع روسيا على التدخل واحتلال البلد (أيلول/ سبتمبر 2015) عندما شارف نظام بشار الأسد على السقوط، لتحقيق نفس الأهداف والغايات الإماراتية المعلنة والمتمثلة بمنع قيام أنظمة ديمقراطية للإسلاميين حضور بارز فيها؛ ستقيم بالتأكيد علاقات قوية ومتينة مع تركيا وفق حقائق التاريخ والجغرافيا والمصالح أيضاً.
في سوريا دعمت الإمارات المشروع الانفصالي لتنظيم بي كا كا السوري، ولأنها قوة إقليمية صغيرة لن تتحول أبداً إلى قوة عظمى مثل تركيا، لم تستطع أن تفرض حضورها أو تأثيرها في ظل إمساك أمريكا بالملف مباشرة، وتحديد الأدوار والهوامش التي تتحرك بها أبو ظبي وحليفتها (تابعتها) المستجدة؛ الرياض.
في ليبيا دعمت الإمارات مشروع الانقلابي خليفة حفتر ضد حكومة الوفاق الشرعية واتفاق الصخيرات المدعوم دولياً، بغرض إعادة إنتاج نظام معمر القذافي الساقط. وعندما صمدت الحكومة والثوار في طرابلس، استعانت أبو ظبي بالمرتزقة الروس وروسيا نفسها، ومن ثم خاضت حرب مفتوجة ومجنونة مع أنقرة بسبب تدخلها لصالح الحكومة الشرعية والعملية والسياسية القائمة على الشرعية الدولية. وسعت الإمارات لتحويل ليبيا إلى مستنقع لتركيا، محرضة مصر ودول أخرى على التدخل، كما جلبت مرتزقة من دول قريبة وبعيدة للقتال ضد الحضور التركي والحكومة الشرعية؛ دفاعاً عن أداتها حفتر ومشروعه الانقلابي الانفصالي.
تدخلت الإمارات أيضاً في الصراع حول مناطق النفوذ والثروة بشرق المتوسط، ورغم أنها لا ناقة لها ولا جمل وقعت على بيان خماسي موتور ضد تركيا (ضم اليونان وقبرص الرومية وفرنسا ومصر)، رفضت حتى إسرائيل التوقيع عليه، ثم دفعت نظام عبد الفتاح السيسي للتصدي للحضور التركي عبر التفاهم البحري الكارثي والضار مع اليونان، والسلبي حتى للمصالح المصرية نفسها.. وأخيراً شاركت في مناورات عسكرية جوية مع اليونان في المنطقة دون مسوغات أو مبررات واقعية مقنعة، اللهم إلا الذهنية الموتورة المسعورة تجاه تركيا.
السعار الإماراتي وصل إلى حد تحريض أرمينيا ودعمها عسكرياً لفتح جبهة ضد أذربيجان، بغرض استنزاف تركيا ودفعها للتدخل والصدام مع روسيا، وتهديد خطوط النفط والغاز الأذرية إلى أوروبا مروراً بالأراضى التركية.
حتى في الصومال، ورغم حضور تركيا الإنساني الإغاثي والإنمائي والساعي لإعادة بناء الدولة، دعمت الإمارات جماعات إرهابية نفذت تفجيرات ضد مؤسسات إنسانية ومدنية، وسعت لفتح معركة استنزاف ضد الحضور التركي، وعندما فشلت طرحت عبر أدواتها خيار الانفصال تماماً كما فعلت في ليييا واليمن.
الإمارات كانت قد تدخلت في تركيا نفسها عبر دعم الانقلاب الفاشل (تموز/ يوليو 2016) بصلات واضحة مع جماعة خدمة وزعيمها فتح الله غولن، كما أقامت علاقات مع قيادة تنظيم جماعة بي بي كا كا الإرهابي في جبال قنديل بالعراق، ثم حاولت عبر بندقيتها المستأجرة محمد دحلان التجسس على الجاليات الفلسطينية والعربية في تركيا.
تركيا هددت بعد نفاد صبرها بالرد مباشرةً على الإمارات التي تجاوزت حجمها، ولا شك أنها مسألة وقت حتى يتم تلقينها درساً حسب تعبير الرئيس أردوغان، وهو ما حصل فعلاً من قبل مع بشار الأسد وخليفة حفتر، وسيحدث حتماً مع محمد بن زايد.
الرد غير المباشر حصل طبعاً عبر إفشال السياسات الإماراتية في سوريا وإنهاء تصعيد آذار/ مارس الماضي ضد رغبتها، ما منعها من دفع بقية الرشوة لنظام الأسد بعدما عجز عن المضي قدماً في معركة الاستنزاف ضد تركيا، كون القرار في مناطق سيطرته غرب الفرات للاحتلال الروسي، كما هو للأمريكي شرق الفرات بمناطق سيطرة بي كا كا السوري.
في ليبيا أدى التدخل التركي إلى تحويل الدفة نهائياً، ومشروع حفتر انتهى تقريياً انقلابياً وانفصالياً، والحكومة الشرعية تزداد قوة يوماً بعد يوم، كما الحضور التركي الميداني والسياسي.
تركيا دافعت وتدافع كذلك عن مصالحها شرق المتوسط وحتى آخر مدى وفق القانون الدولي، وثمة حضور ووساطات من دول كبرى. ورغم سعى الإمارات للانخراط بالأزمة، إلا أنه لا أحد يقيم لها وزناً كونها مجرد محرض هامشي وصغير.
أما في ما يخص اتفاق التطبيع والتحالف الإماراتى الأخير مع إسرائيل، فقد فهمت تركيا خلفيات وحيثيات الاتفاق باعتباره طعنة للقضية الفلسطينية ومحاولة لتصفيتها، بكل ما تمثل تاريخياً وعاطفياً وسياسياً للشعب التركي وقياداته.
من هنا كان حرص الرئيس أردوغان على الاتصال بالرئيس محمود عباس في نفس اليوم الذي استقبل فيه رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية، للتعبير عن الموقف القوي الداعم، وإذا ما تلكأت الجامعة العربية في اتخاذ موقف قوي، فإن تركيا ستسعى لتقديم الدعم اللازم في منظمة التعاون الإسلامي أو أي منتديات أخرى ذات صلة.
تركيا أعلنت استعدادها كذلك لدعم كل الخطوات الفلسطينية الساعية للتصدي للطعنة الإماراتية، بما في ذلك إنهاء الانقسام والمصالحة، كما أي خطوات سياسية ودبلوماسية تقوم بها القيادة الفلسطينية في الساحات الدولية، إضافة إلى فهم المغزى الفلسطيني، ومحاولة تصفية القضية وشطبها عن جدول الأعمال، بما في ذلك السعي الإماراتى لتنصيب عميل إسرائيلي (محمد دحلان) في سدة القيادة الفلسطينية.
كما قال ذات مرة وزير الخارجية مولود شاويش أوغلو، فهمت القيادة التركية كذلك مغزى التحالف إقليمياً لجهة قيادة أبو ظبي لتيار تطبيعي عربي يشمل أصلاً أنظمة الفلول الجدد التي تسعى الإمارات لإعادة إنتاجها عربياً، وستطلب طبعاً دعم إسرائيل في سياساتها الإقليمية المدمرة بمختلف الساحات العربية، من اليمن شرقاً إلى ليبيا غرباً، ومن سوريا شمالاً إلى الصومال جنوباً.
ورغم عدوانية إسرائيل إلا أنها تبدو أكثر حذراً وأقل تهوراً من قادة الإمارات، وستسعى طبعاً لتقديم ما تستطيع من دعم لهذه الأخيرة، لكن دون الاصطدام مباشرة مع تركيا، كما تفعل أو تريد أبو ظبي.
عموماً تسعى الإمارات عبر التطبيع- التحالف للتحول إلى دولة إقليمية عظمى، وهو ما فهمته تركيا وستمنعه بالتأكيد بحضورها ودفاعها عن مصالحها الإقليمية في محيطها الجيوبولوتيكي المباشر، كما عبر دعمها للثورات والقضايا العربية العادلة، وحق الشعوب في تقرير مصيرها ضمن أنظمة مدنية ديمقراطية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية طبعاً. وهذا يأخذنا بالضرورة إلى النفاق الإسرائيلي التقليدي، حيث تتباهى تل أبيب بكونها ديمقراطية، بينما تفضل التعامل مع أنظمة الاستبداد والفساد العربية، والمساعدة حتى في إعادة إنتاجها بعد سقوطها.