بعد استقالة رئيس الحكومة التونسية إلياس الفخفاخ –بسبب بعض شبهات الفساد المتعلقة به-، كان من المفترض أن يتمحور السجال العمومي حول اختيار الرئيس قيس سعيد لهشام المشيشي-دون الأسماء كافة التي رشحتها الأحزاب الممثلة في البرلمان- قصد تشكيل الحكومة.
ولكن هذا الحدث -على أهميته- تراجع إعلاميا وسياسيا ليُفسح المجال أمام حدث آخر، ألا وهو جلسة سحب الثقة من رئيس مجلس النواب وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي. ولا شك في أن سقوط هذه اللائحة ستكون له تداعيات مهمة في تشكيل المشهد السياسي التونسي، سواء داخل حركة النهضة أو خارجها، خاصة فيما يتعلق بتوازنات المؤتمر القادم للحركة أو في ملف مفاوضات تشكيل الحكومة وتركيبتها، أو حتى في مسألة العلاقة بين حركة النهضة ورئاسة الجمهورية.
ماذا لو مرّت اللائحة وسقط الغنوشي؟
كي نتبين التأثيرات المنتظرة لفشل تمرير لائحة حجب الثقة عن رئيس مجلس النواب، علينا أن نفترض حصول العكس، أي نجاح الموقّعين على اللائحة في إسقاط الغنوشي. لقد كان نجاحهم يعني واقعيا فقدان النهضة لآخر حلفائها من ورثة المنظومة القديمة-حزب قلب تونس- ونهاية فكرة التوافق التي راهن عليها زعيم الحركة، ومازال، رغم ما سببته من انشقاقات داخل الحركة، وفقدان جزء مهم من قاعدتها الانتخابية التقليدية.
كما أن النجاح في تمرير اللائحة سيقوّي الموقع التفاوضي لرئيس الجمهورية مع حركة النهضة، فبعد أن خسرت الحركة الحق في تشكيل الحكومة، ستكون خسارتها لرئاسة المجلس مناسبة قد يستغلها الرئيس للدفع نحو تشكيل حكومة سياسية بأوسع حزام سياسي ممكن دون مشاركة النهضة، وهو ما يتوافق مع رغبة الكتلة الديمقراطية التي هي الحليف الأوثق للرئيس إلى حد هذه اللحظة.
أما رئيسة الحزب الفاشي ووريثة المقاربة الاستئصالية في التعامل مع الإسلاميين عبير موسي، فإن النجاح في تمرير اللائحة كان سيعني لها الوفاء بوعدها بإخراج الغنوشي من رئاسة المجلس، فرغم أن الحزب الدستوري الحر ليس ممن أمضوا على اللائحة بل قدم لائحة"تكميلية" مستقلة -بحكم رفض الكتلة الديمقراطية التحالف"القانوني" معه في هذه المسألة، فإن النجاح كان سيُقوي من نفوذ عبير موسي داخل المنظومة القديمة، بل كان سيكسبها "مشروعية" ادعاء الزعامة والدعوة إلى توحّد"العائلة الدستورية" (أي ورثة التجمع وشقوق نداء تونس) تحت قيادتها.
كما كان من المتوقع أيضا أن تدفع زعيمة الحزب الفاشي بالتصادم مع حركة النهضة-بدعم من إعلام المنظومة القديمة وأذرعها النقابية والمدنية والجهوية- إلى مرحلة أعلى، كأن تستثمر في ملف ما يُسمّى بـ"التنظيم السري" لتطالب بحل حركة النهضة، أو على الأقل هرسلتها وابتزازها بصورة أكثر عدوانية، وهو ما قد يُنذر بانتقال الصراع من أروقة مجلس النواب إلى الشارع وما يعنيه ذلك من مخاطر مؤكدة، على السلم الأهلي والعيش المشترك.
قيس سعيد وعبير موسي: تقاطع تكتيكي وتناقض استراتيجي
عندما رفض الرئيس قيس سعيد مقترح حركة النهضة لرئاسة الحكومة-للمرة الثانية- وبإعراضه عن كل مقترحات الأحزاب الأخرى -بما فيها الأحزاب المحسوبة على "حكومة الرئيس"- فإنه قد خطا خطوة مهمة نحو تنزيل مشروعه السياسي، الذي يكون فيه الرئيس/الزعيم بديلا عن الطبقة السياسية وأحزابها، لا شريكا لها.
فالرئيس الذي صرّح بأن زمن الأحزاب قد انتهى، استثمر الأزمة البرلمانية وتداعياتها ليدفع بمشرحه الخاص -من خارج قائمات الترشيحات الحزبية- ليكون وزيره الأول لا رئيسا للوزراء، كما يُفترض به في النظام البرلماني المعدّل. وإذا ما استحضرنا رفض الرئيس لتكوين حزب خاص به، وتذكرنا العديد من الأصوات المحسوبة عليه والمنادية بالديمقراطية القاعدية أو التشاركية، فإن علاقته الصدامية بالحركة ستكتسب معقولية تتجاوز التفسيرات السطحية –من مثل هجوم قواعد النهضة على الرئيس واتهامه حينا بالتشيع السياسي أو حتى العقدي، واتهامه أحيانا أخرى بتنفيذ أجندة اليسار الراديكالي- فضرب المنظومة الحزبية التي هي أساس الديمقراطية التمثيلية يعني بالضرورة الانطلاق من ضرب الحزب الأقوى، أي حركة النهضة.
ولا شك في أن الرئيس كان سيستفيد هو أيضا من إضعاف حركة النهضة برلمانيا. فرغم عدم وجود أي دلائل على تنسيق سري بين الرئاسة والحزب الدستوري الحر، ورغم الاختلاف الجذري بين مشروع الرئيس ومشروع وريثة التجمع، فإن الالتقاء الموضوعي بينهما على عداوة النهضة لا يخفى على أي متابع للشأن التونسي.
ومن الواضح أن علاقة "عدم الاعتداء" التي تجمع بين الرئيس وعبير موسي تحكمها مشتركات سياسية تكتيكية، وإن كانت تلك العلاقة منذورة للتصادم بالضرورة في المستوى الاستراتيجي. فالرئيس يريد أن يكون بديلا للمنظومة السياسية كلها-بحكّامها ومعارضيها- وبقانونها المنظم للسلطات أيضا، لكن ضمن أفق ثوري، أما عبير موسي، فإنها تشترك مع الرئيس في رغبته في تعديل نظام الحكم إلى نظام رئاسي، ولكنها تريد العودة إلى مربع 13 كانون الثاني/ يناير 2011 ، بل العودة إلى مربع 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، إن استطاعت إلى ذلك سبيلا.
ومما لا شك فيه أن الرئيس وزعيمة الحزب الحر الدستوري يعلمان جيدا حدود التقاطع والالتقاء، ولكنهما يتحركان ضمن استراتيجيتين مختلفتين للاحتواء المتبادل: فالرئيس يريد أن يوظف وريثة التجمع لترذيل النظام البرلماني المعدل وتهيئة المناخ لتقديم مبادرة تشريعية قصد تعديل النظام السياسي، أما عبير موسي، فإنها توظف عداء الرئيس للنهضة كي تزيد في عزلتها السياسية، وكي ترفع من قيمة أسهمها السياسية في الداخل وفي الخارج أيضا (فالدعم الإماراتي السعودي لا يكاد يخفى على أحد، على الأقل في مستوى الإعلام).
مشاريع الانقلاب لن تفرّق بين الإسلاميين والعلمانيين
من المؤكد أن بقاء الشيخ راشد الغنوشي على رأس مجلس النواب هو انتصار للديمقراطية بأكثر من معنى. فهو انتصار لها ضد آليات الاحتكام إلى الشارع في فض الخلافات، وهو انتصار لها في بيان قدرة التجربة التونسية على إدارة أزماتها، بعيدا عن وصاية العسكر أو المؤسسة الأمنية، وهو أخيرا انتصار للديمقراطية على كل أعدائها الإقليميين والدوليين الذين يريدون العودة بالبلاد إلى مربع الصراعات الهووية، ومنطق النفي المتبادل بين الإسلاميين والعلمانيين.
ولكنّ انتصار الديمقراطية ليس نهائيا، ولا غير قابل للانتكاس. ولا شك في أن كل الفاعلين الجماعيين داخل مجلس النواب وخارجه-بمن فيهم حركة النهضة وزعيمها- مسؤولون عن هذا الوضع الهش الذي تعيشه بلادنا في أكثر من مستوى.
وهو ما يعني أن على الجميع مراجعة مواقفهم-مواقف الاستئصال الناعم أو التوافق المغشوش- والقيام ببعض التنازلات المتبادلة -ضمن أفق الثورة التي حررت أغلبهم ودفعت بهم إلى السلطة، وبعيدا عن أجندات المنظومة القديمة وواجهاتها الحزبية- حتى يُخففوا ما أمكن من "قابلية الاختراق"، بشكليها الأكثر خطورة وراهنية: الاستعمار (الاقتصادي) والاستحمار ( الثقافي).
الإمارات وتفخيخ المشهد السياسي في تونس
ماذا استفادت تونس من الصراع بين النهضة والتيار الديمقراطي؟
قراءة في مواقف السلطة و"القوى الديمقراطية" التونسية من الثورة السورية