الفكرة اليسارية، ارتبطت نظريا بالنضال من أجل الخلاص من الظلم الاقتصادي والاستبداد السياسي، لكنها واقعيا تباينت ليس في فهم الواقع وتحليله، ولكن أيضا في التعامل معه.
ومع أن أصل مصطلح اليسار يعود تاريخيا إلى الغرب وتحديدا إلى الثورة الفرنسية عندما أيد عموم من كان يجلس على اليسار من النواب التغيير الذي تحقق عن طريق الثورة الفرنسية، فإنه وجد تطبيقه في أوروبا الشرقية، وتحديدا في الاتحاد السوفييتي مع الثورة البولشيفية.. ومعه تغيّر وتشعّب استعمال مصطلح اليسار بحيث أصبح يغطي طيفًا واسعًا من الآراء لوصف التيارات المختلفة المتجمعة تحت مظلة اليسار.
عربيا نشأ التيار اليساري (القومي والاشتراكي والماركسي) أواسط القرن الماضي مقترنا مع نشأة الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار والرأسمالية الصاعدة يومها.. وبعد الاستقلال تمكنت بعض التيارات اليسارية من الوصول إلى الحكم، وكونت جمهوريات حاولت من خلالها ترجمة الأفكار اليسارية، لكن فكرة الزعيم ظلت أقوى من نبل الأفكار ومثاليتها...
وفي سياق صراع فكري مع التيار الإسلامي المحافظ تحديدا، وسياسي مع الأنظمة العربية التي تسلمت حكم البلاد العربية بعد جلاء المستعمر، استطاع اليساريون العرب الإسهام بفاعلية في تشكيل الوعي الفكري والسياسي العربي الحديث والمعاصر..
وعلى الرغم من شعارات الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، التي رفعها اليسار العربي على مدار تاريخه الطويل، فإنه ومع هبوب رياح الربيع العربي التي انطلقت من تونس أواخر العام 2010 مؤذنة بنهاية صفحة من تاريخنا السياسي الحديث والمعاصر، اتضح أن كثيرا من الشعارات التي رفعها اليساريون العرب لجهة الدفاع عن الحريات والتداول السلمي على السلطة لم تصمد أمام الواقع، وأن اليساريين العرب ورغم تراكم تجاربهم السياسية وثراء مكتبتهم الفكرية، إلا أنهم انحازوا للمؤسسة العسكرية بديلا عن خيارات الصندوق الانتخابي..
"عربي21" تفتح ملف اليسار العربي.. تاريخ نشأته، رموزه، اتجاهاته، مآلاته، في أوسع ملف فكري يتناول تجارب اليساريين العرب في مختلف الأقطار العربية..
يواصل الكاتب والباحث في الشأن الفلسطيني الدكتور وسام الفقعاوي في الجزء الثاني والأخير من هذه الورقة الخاصة بـ "عربي21" عن اليسار الفلسطيني، تتبع مآلات التيار اليساري في فلسطين..
ما من دور دون وظيفة.. وما من وظيفة دون أدواتها
أسئلة الدور والوظيفة وربطها بأدواتها، من الأسئلة التي يجب أن تطرح باستمرار على جدول أعمال الأحزاب عمومًا، وليس أحزاب اليسار فقط؛ لأن هذه الأسئلة إن لم تطرحها هي على ذاتها، فإن التاريخ والمجتمع يطرحها، ربطًا بالوظيفة الوطنية والاجتماعية المطلوبة منها، واستطرادًا إلى المساحة الاجتماعية والتاريخية في واقعنا والمتروكة لمن يملأها، وهذا يعني أن الحزب لا يحدد دورًا، بل يمارس دورًا ووظيفة وطنية واجتماعية موجودة ومقررة اجتماعيًا، دون أن يعني ذلك أن الوظيفة دائمة، ومن يلعبها دائمًا ثابت، بل هي متحركة؛ من حركة المجتمع.
إن أهمية طرح أسئلة الدور والوظيفة والأداة على اليسار الفلسطيني بمختلف مكوناته، كونها تعادل في ذاتها سؤال الوجود ومبرراته، كون بقاء أية أداة سياسية في ظل التغيّرات التاريخية التي جرت ولا تزال تجري، رهن قدرتها على وعي الشروط الموضوعية، وما طرأ عليها من تغيّرات، وبالتالي ما يترتب على ذلك من وظيفة أو وظائف جديدة، تبحث عمن يستجيب لمهامها، وهذا الأمر أكثر ما ينطبق على الوضع الفلسطيني، بحكم أن التغيّرات ومنها الحادة بالذات؛ سمة من سيرورته، ما يفرض على قواه الاستجابة لهذه السيرورة، وهذا يرجع بدوره إلى مدى وعي كل قوة لشروط وجودها الموضوعي وقدرتها على التفاعل الخلاق معها.
الأمر لم يعد يقتصر على فشل اليسار في تجديد نفسه، بل أصبحت أحزابه في معظمها قوى طاردة للشباب وللأفكار الجديدة، غير قادرة على الإنتاج النوعي فكريًا وثقافيًا
اليسار الفلسطيني بالإجمال وفي ضوء التجربة والنتائج المحققة والماثلة للعيان، يتضح بأنه لم يستوعب ويتمثل التغيّرات التي حصلت على المستويين الدولي والعربي والفلسطيني منه منذ مطلع تسعينيات القرن المنصرم، وعليه عجز عن إجراء مراجعات فكرية وسياسية وتنظيمية عميقة، تستطيع أن تجد البديل من داخل النظرية والواقع معًا، وتجدد الفكر والممارسة الأكثر مواءمة لخصوصية اللحظة التاريخية والمكانية، وبالتالي تقديم تبرير موضوعي لاستمرار دوره ووظيفته، فكما هو معروف ودارج في الأدبيات الماركسية فإن التنظيم (الحزب) هو شكل التوسط بين النظرية والممارسة، وهذا ما يعني أن المسألة التنظيمية ليست مسألة تكنيكية، بل فكرية وسياسية، لا يمكن أن تخضع للعفوية والتجريبية، وهذا يعني غياب كل نظرية عن التنظيم (الحزب)؛ "فالحزب الذي لا يملك أيديولوجيا محددة، لا يمكن أن يكون مالكًا لرؤية واضحة ولوعي كامل، وهو لا يُقصّر في وعي الأحداث وفهمها فحسب، بل لا يستطيع أيضًا أن يحدد موقعه هو نفسه من الأحداث، ولا أن يدرك عميق الإدراك طبيعة العلاقة بينهما" (3).
وهذا ما يعني أن وعي أي حزب لدوره ووظيفته هو شرط ونتيجة فعالية وعيه الموضوعي لتطورات الأحداث والمتغيرات من حوله، وهذا ما يفسر بأنه رغم براعة أحزاب اليسار في إنتاج خطابات حول التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية والفقر والمساواة والاستبداد والاغتراب والتهميش؛ غير أن تأثيرها في مجرى الأحداث بقي محدودًا، بحيث لم تستطع أن تكون البديل السياسي الذي يستوعب آمال الناس، ليس فقط لأسباب ثقافية، بل لأنها لم تقم بوظيفتها المطلوبة أصلًا (4).
في ضوء واقع أحزاب اليسار المشار له، فلقد باتت ـ منذ زمن بعيد نسبيًا ـ تأكل من رصيدها التاريخيّ الكفاحيّ والذي صنعته نضالات طويلة كبرى وتضحيات لا يمكن لأحد أن يقلل منها؛ إلا إنها في ممارستها الرّاهنة تُسيء إلى هذا التاريخ، بقبول العيش عليه والأكل من رصيده يومًا بعد يوم، ومع الوقت بدأ يتحّول تدريجيًا إلى عبئ على واقع قيادي مترهل وعديم الكفاءة في مجمله، وشريحة تحتكر موقع القيادة وفقدت القدرة على الابتكار والخيال والتجديد تقف عاجزة أمام أسئلة الحاضر وتعقيداته الرّاهنة والاستثنائية: فكيف يُصدّق الشباب الفلسطيني خطابات اليسار عن الحرية والديمقراطية والمساواة، وهو يرى على سبيل المثال لا الحصر، أن حزب يساري يريد تحرير فلسطين وتغيير العالم، بينما "يستنقع" أمينه العام في موقعه لأكثر من نصف قرن من الزمن؟
الأمر لم يعد يقتصر على فشل اليسار في تجديد نفسه، بل أصبحت أحزابه في معظمها قوى طاردة للشباب وللأفكار الجديدة، غير قادرة على الإنتاج النوعي فكريًا وثقافيًا (5). ومسألة التجديد لا تعني فقط الزج ببعض الكوادر الشابة إلى مواقع القيادة، بل هي صيرورة اجتماعية تعبر عن التحولات في البنى الاجتماعية، لكن واقع الحال يقول بأن أحزاب اليسار تعيش تحت وطأة التكلس والجمود وفقدان حيوية وتجدد العملية التنظيمية وضرب مفاهيمها التي تتناولها في أدبياتها ووثائقها، بما فيها أنظمتها ولوائحها التي يُفترض أنها تنظُم الحياة التنظيمية الداخلية.
إن بشرية الفكر الإنساني ترفض وتأنف الجمود والتكلس وعدم التجديد، وهي لديها القابلية دومًا للتجديد بحسب مقتضى الأحوال والضرورة، وقد لا يعني التجديد هنا انقلابًا كليًا شاملًا، وإلا تغيّر الشيء نفسه فصار شيئًا أخر، ولكن التجديد يعني جعل الشيء الفكرة أو الموضوع أو النسق معاصرًا لمن يتعاطاه أو يتناوله أو يتماهى مع معطياته.
التجديد يجب أن يطال كل ما له قدرة أو إمكان على إحداث التطور والنهوض والقدرة على أداء الدور والوظيفة؛ بحسابات معلومة وبتقدير عالٍ لطبيعة ومضمون ومستوى الأداة التي مطلوبًا منها القيام بدور تاريخي وشامل بكل ما تعنيه الكلمة.
هل من مستقبل؟
لا مناص بأن صحة الوظيفة الوطنية والاجتماعية لأي حزب تتحدد بمدى تأسيسها على رؤية صائبة، ولا بد أن تصاغ بدورها انطلاقًا من قراءة سليمة للواقع المعاش، وهذه من نقاط البداية في المعالجة، انطلاقًا من النقطة المتقدمة وبكلمة أدق؛ النقطة الطبيعية التي وصلتها التجربة الاجتماعية للبشرية قاطبة، بما يعنيه القول من معايير وأساليب عمل ومناهج بحث وتناول للمسائل... الخ، من إنجازات علمية أساسية، فلقد آن الأوان فعلًا لأن يتصالح اليسار مع العلم..!
فالمستقبل ليس أُمنية أو كلمة تقال بلا مضامين، بحيث يجب أن تتوفر هذه المضامين حقًا، كي لا تبقى تتكرر الإشكاليات والمعضلات وبالتالي الأزمات، وإذا سلّمنا بأن الحاضر ابن للماضي والحاضر يقرر المستقبل، فإن المقصود يتجاوز الجانب التكاملي والتراكمي صوب السبب في أن يكون التكامل والتراكم سلبيًا أو ايجابيًا، وأنه إذا ما استمر، فلا بد وأن تكون حصيلة المستقبل على شاكلة ما سبقها إن لم يكن أسوأ. ولكي لا نصل إلى ما هو أسوأ يجب أن تحضر ضرورة المراجعة النقدية الجريئة والمطلوبة دون مزيد من التأخير، انطلاقًا من أن المراجعة بقدر ما تفسر الماضي؛ فإنها صالحة لتكون قاعدة بناء المستقبل. وعليه، فإن الموقف الخائف من المراجعة أو الرافض لها، وبالتالي لدروسها وعبرها المستفادة، هو موقف من المستقبل الذي يجري اغتياله مسبقًا حينما نرفض دفع استحقاقاته المطلوبة، وأي استحقاقات تلك إن لم تكن الحفاظ على الوجود، وأن تبقى أحزاب اليسار الفلسطيني على قيد الوظيفة الوطنية والاجتماعية المقررة.
تأسيسًا على ما سبق، فإن اليسار ليس كلمة أو صفة أو وصفة؛ إنه مشروع فلسفي ـ سياسي ـ اقتصادي ـ ثقافي ـ طبقي ـ عملي نضالي؛ إنه مشروع يسعى لقيادة المجتمع، وهذا لن يكون إلا بالمبادرة الفاعلة في الواقع والاستعداد للمواجهة والتضحية، وما نسميه "النقد الذاتي"، أي مراجعة الذات، ليس المقصود منه جلد الذات أو التباكي أو التبرير والتنظير الهش للفشل. فالتأسيس للمستقبل، يجب أن ينطلق من تأكيد مفاهيم العقلانية والموضوعية والنسبيّة وما يجري على منوالها، بحيث يكون ذلك التأسيس تقدميًا في جوهره، وأن لا يحمل وعيًا زائفًا، وهذه المهمة المصيرية لا تستدعي أن "يُنكل" اليسار بتاريخه وماضيه، وعليه، فإن النقد الذاتي والمراجعة، يجب أن تنطلق من الواقع الراهن، وهي متشربة وهاضمة جيدًا لهذا التاريخ/الماضي الذي فيه الكثير مما يحق لأحزاب اليسار أن تعتز، بل وتفخر به، وتدافع عن استثنائيته في العديد من المراحل، وما بذله أجيالها من تضحيات عزيزة، لكن تبقى القيمة الرئيسة هي أن نذهب نحو بناءً جديد من خلال استخلاص الدروس والعبر المطلوبة، وهذا من صلب التجاوز للواقع الحالي نحو المستقبل.
بتكثيف شديد؛ إن ممارسة النقد الذاتي والمراجعة إجمالًا مسألة تتجاوز المفهوم النظري إلى إنتاج ما هو عملي على شكل إجراءات حقيقية ثورية، وقرارات سياسية، ومناهج عمل تقدمية قولًا وفعلًا، وتجد لها ترجمة فعلية في الواقع، أي المكان الذي لليسار فيه مستقبل لا غيره.
المراجع:
3 ـ جورج طرابيشي: في التنظيم الثوري، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط.2، 1969.
4 ـ عبد الإله بلقزيز: في ماركسية اليسار العربي، موقع التجدد، 4 آذار (مارس) 2019: ttp://altajadud.com/%D9%81%D9%8A-
5 ـ خالد بركات: عن اليسار ومقولات التجديد مرة أخرى، موقع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الالكتروني، 9 شباط (فبراير) 2017:
https://pflp.ps/ar/index.php?act=post&id=14697
إقرأ أيضا: اليسار الفلسطيني: الجذور الفكرية والواقع والتحديات (1 من 2)