قضايا وآراء

الدولة الديمقراطية الاجتماعية: معركة الأمل والمستقبل

1300x600
استوقفتني مقولة الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني في علاقة بأزمة كورونا "الخوف المطْبق من الوباء أعاد إلى المنزل وظيفته الأولية"، فتساءلت: هل المنزل فقط ما سيُعاد النظر في وظيفته؟ سؤال وجدت له إجابة لدى عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي إدغار موران حين قال: "يُنبِئُنا فيروسُ كورونا المستَجِدّ بأنّه يتعيّن على البشريّة جمعاء أن تُعيد البحث في طريق جديد من المحتَمَل فيه أن يُتخلّى عن العقيدة النّيوليبراليّة لغاية التوصّل إلى اتّفاق سياسيّ اجتماعيّ بيئيّ جديد".

فعلا قد يساهم الفلاسفة والمفكرون بتفسير العالم بشتى الطرق، إلا أن تغييره هو الأهم.

يتسابق الكثير من المفكرين والساسة على التنبؤ بمستقبل العالم والبشرية بعد جائحة كورونا، وسط إجماع شبه مُطلق على أن الأمور لن تعود كما كانت عليه في السابق. ولكن السؤال المحوري: هل سيكون التغيير في المنحى الإيجابي لتجاوز أخطاء الماضي؟

إن أهم الدروس المستفادة من أزمة كوفيد-19 متعلق بمسار خوصصة الرعاية الصحية وضعف السياسات الاجتماعية، والتي كانت سببا رئيسا لفشل مواجهة الوباء واستتباعاته منذ البداية، وأن أدوات الرأسمالية انكشفت عوراتها وجعلت حياة الإنسان في خطر.

لم تكن تونس بمعزل عن الجائحة الكونية أو عن مخاطرها وارتداداتها الصحية واستتباعاتها الاقتصادية والإجتماعية، بل ضاعفت الأوضاع الصعبة والمتأزمة منذ سنوات، والتي يراها طيف واسع من المشتغلين بالشأن العام نتاج اتباع سياسات نيوليبرالية ساعية لإيقاف دور الدولة في المجتمع، وضمن مسار تحويل الخدمات الصحية والتعليمية والتنموية المختلفة إلى القطاع الخاص، وهو ما يشكل تناقضا تاما ومباشرا مع الديمقراطية ومع حقوق الإنسان ومع التنمية.

لقد ضُربت الدولة الراعية في المقتل (خصوصا في العالم النامي) بسبب الاتهامات الدائمة بتدبيرها السيئ لموارد الدولة، ولنشرها ثقافة التكاسل و"القمة الباردة" بين الأفراد، وقتل روح المبادرة الحرة والاستثمار ضمن البرامج التي تقرها الأنظمة الكليانية لاستنزاف الفاعلين الاقتصاديّين بالضرائب وتصريفها في سياسات كارثيّة، لذلك كانت المدرسة الليبرالية الجديدة تدعو إلى الدولة النحيفة ذات الوظيفة الادارية والأمنية، بعيدا عن الوظائف الاستراتيجية والتخطيط الاقتصادي.

الدولة الهاربة من المسؤولية الاجتماعية

كانت الدولة التونسية ولسنوات عديدة، ومنذ الثمانينيات، الدولة الهاربة تدريجيا من المسؤولية الاجتماعيةـ في تحول من الفاعل الرئيسي والأب الراعي والمسؤول إلى راع لتوازن القوى الاقتصادية التي كانت تستهدف تفكيك ما تبقى من النسيج الاقتصادي الوطني، وإعادة هيكلته حسب ما تقتضيه مصالح الرأسمال الطفيلي، وضرب ما تبقى من المكاسب الاجتماعية، وتحويل الدولة إلى مجرد جهاز لفرض الامن ومكتب لتجميع الأداءات والضرائب لتسديد الديون المتصاعدة.

سيكون من الموضوعية الإقرار بأن الجميع عجز منذ سقوط النظام السابق عن إدارة المرحلة، خصوصا من خلال طرح تقييم جدي وبحث عن حلول تعي حاجيات التونسيين، وتعطيهم الأمل في حاضرهم والحلم لمستقبلهم بالتنمية والتشغيل. بل ازدادت الأزمة الاقتصادية حدة، وتشابكت عوامل عديدة في استفحالها وكانت تلتقي دائما في نقطة واحدة، وهي عجز آلة التفكير اليمينية (بتفريعاتها) السياسية والاقتصادية القائمة منذ عقود على إدارة وتنفيذ سياسات الدولة في حلّ المشاكل الفعلية.

الدولة الاجتماعية معركة الأمل والمستقبل

هل كنا بحاجة لكارثة على غرار وباء الكوفيد-19 لكشف حقيقة العولمة الرأسمالية ولا عقلانية النظام العالمي كترابط فاقد للتضامن، أهمل ووضع على المحك أركان الكرامة الإنسانية؟

الفيروس الصغير سرّع بسقوط أركان المعبد، وشرّع لبدايات انقلاب مدوٍ لم يتوقعه منظرو "النيوليبرالية"، حيث تلجأ اليوم في معاقلها لسياسات الدولة الاجتماعية الراعية لتجاوز انهيار نظمها الصحية، وإيجاد حلول لتداعيات كارثة الوباء القاتل، في تناقض مع الوصفات النيوليبرالية التي هيمنت على العالم على مدى السنوات الخمسين الماضية.

إنها معركة الأمل والمستقبل في انتصار الوطن على مخلفات الوباء القاتل وتداعياته مستقبلا، وهل يمكن تخيل ذلك بدون سياسات عمومية منصفة وإعادة توزيع ثروة وطنية تضامنية.

اليوم في تونس يجب أن تسترجع الدولة دورها المحوري، فهي مفتاح التنمية وعمودها الفقري، وعليه يجب أن تتحمل مسؤولياتها من خلال برامج تصحيحية. ولا يمكن اليوم النظر بعيدا عن مطالب الشعب الاجتماعية وانعكاسات وباء كورونا، وهي المطالب الدائرة أساسا حول إنهاء حالة التفاوت التنموي المجحف بين الجهات، ومعالجة أزمة الصحة العمومية والقطع مع التقصير الممنهج طيلة سنوات لقطاعات حيوية، وتحسين ظروف عيش الطبقة الفقيرة والطبقة الوسطى التي اقتربت من حافة الفقر..

المعلوم لكثير من الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين أن جزءا من ثروة البلاد التونسية ضائعة بسبب الفساد والتجارة الموازية وغياب التحكم في مسالك التوزيع والتهرب الضريبي، وغياب الآليات الواضحة لاستخلاص ديونها لدى الشركات والمؤسسات باعتبارها موارد ضخمة للدولة وواجبات قانونية فرّط فيها سابقا، وهو ما وفر الشروط الموضوعية للخضوع لالتزامات خارجية مجحفة يدفع ثمنها باهظا المواطنُ التونسي.

عيوب السيستام بكلياته وجزئياته كانت اليوم مع أزمة كوفيد- 19 على مرمى البصر منا جميعا، ولا مهرب للتنصل من المسؤولية والتبرير لا من الإدارة المحافظة، ولا من سياسات حكومات متعاقبة أنتجت الفوارق وأسباب التوتر والظلم، ولا من الوعي المجتمعي العام.

نحتاج لوقفة تدبّر وتغير جذري للسياسات العمومية في كل المجالات، وخصوصا معالجة الفقر والتعامل مستقبلا مع الأسباب الحقيقية للفقر متعدد الأبعاد، وليس مع نتائجه.

نحن اليوم أمام فرصة تاريخية للدولة لتطور في خطابها وسياساتها وتبنيها لنظام الحماية الاجتماعية، فالاغفال عن تجديد المضامين والممارسات وخصوصا القيادات التنفيذية، يعني أن المحتوى لم يتغير، ولن يتغير!

علينا تقوية رابطة الوطن، وتوثيق عرى المسؤولية، وتعظيم قيمة التكاتف والتضامن والوحدة، للتغلب على هذه العيوب والأزمة القاتلة.

لن يموت حلم دولة الديمقراطية الاجتماعية في تونس، فنحن اليوم مكلّفون وجوبا بملء كل فراغ وإيجاد سلطة فعلية قريبة من المجتمع ومشاغله.

لعنة كوفيد-19 أحيت وأنعشت الدور الاجتماعي للدولة، فهل تعيد تصميم نموذج للمنوال التنموي وتدفع لتغيير فلسفة البرامج الاقتصادية والاجتماعية؟ ذاك هو الأمل المرجو في قادم السنوات.

الهدف الأسمى للسياسة خلق الأمل للناس..

الهدف الأسمى للحكومة هو أن يصبح المواطن في صلب أهداف سياساتها وبرامجها.