قضايا وآراء

ذكرى للبشر

1300x600
فرضت علينا الأحداث التي نعيشها تباعدا اجتماعيا وعدم السفر وقلة الحركة، وأتاحت لنا الفرصة والوقت للتأمل في ما حولنا.

والتأمل في تقديري هو نوع من أنواع التقييم، فالإنسان عندما يتأمل لوحة أو مشهدا أمامه فهو يقوم بعملية تقييم ضمني لها، وبالتالي يعجب بها أو لا. ونحن الآن نقوم بنفس الدور الذي افتقدناه منذ فترة طويلة، مع أننا مطالبون به كل يوم وبعد أي عمل نقوم به. وكما وصانا الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم.

ولعل الوقت الحالي فرصة لهذا التأمل والتقييم المطلوب، ولكن هيهات أن نقوم بالتقييم المطلوب في ظل نظام الحياه القائم شرقا أو غربا، فنجد مع فترة عدم الحركة التي نعيشها قد زادت وارتفعت وتيرة إنتاج البرامج الالكترونية للتسلية والتواصل من خلال شبكة الإنترنت، هذا بالإضافة إلى البرامج التلفزيونية والمسلسلات وخصوصا ونحن في رمضان لشغل الناس عن القيام بوظيفة التأمل المطلوبة.

بدأ الوباء في الصين ولم تعلن بشكل كامل عن أبعاده، كما تتهمها الولايات المتحدة. وهناك التقارير التي تفيد بأن الصين أخفت الأرقام الحقيقية للإصابات والوفيات في بدايات الانتشار في كانون الأول/ ديسمبر وكانون الثاني/ يناير الماضيين. فقد أعلنت أن الوفيات لم تبلغ خمسة آلاف وفاة، في حين أن الوفيات بلغت في إيطاليا أكثر من 29 ألف وفاة مع مراعاة الفارق الكبير بين عدد السكان في البلدين. والصين تحاول الآن تعديل في الأرقام التي أعلنت.

ثم انتقلنا إلى منهجية مناعة القطيع التي أعلنها رئيس الوزراء البريطاني، والتي تراجع عنها نتيجة الهجوم الذي شنه المتخصصون والعلماء في مجال الصحة والطب. ثم انتقل الاهتمام إلى الولايات المتحدة والتي بلغت الوفيات فيها أكثر من 75 ألفا حتى كتابة هذه السطور. وحاول رئيسها أن يخفف من أبعاد الوباء، ولكن مواجهة المراكز الطبية في الجامعات الأمريكية أجبرته على التراجع، ولكنه بين الحين والآخر يخرج بتصريحات لا تصدر عن شخص سوي أو عاقل، وآخرها تصريحاته بخصوص استخدام المطهرات كعلاج من الوباء.

والعالم يتجه نتيجة هذه الجائحة إلى كساد وركود اقتصادي يماثل الكساد العظيم في نهاية العشرينيات من القرن الماضي. فقد بلغت نسبة البطالة في الولايات المتحدة أكثر من 14 في المئة، وهي نسبة لم تحدث منذ الكساد الكبير في 1932. وقد تقدم أكثر من 30 مليون أمريكي للحصول على الإعانات المالية لعدم وجود دخل.

ونفس النموذج نجده في أوروبا ومختلف بلدانها، وكذلك مختلف دول العالم. وتختلف درجة حدة الأزمة من دولة إلى أخرى. وقد طالب الأمين العام للأمم المتحدة بإنشاء صندوق لدعم الدول الفقيرة خلال هذه الجائحة، وبدأه بقيمة ملياري دولار، ثم طالب بزيادته إلى اكثر من أربعة مليارات من الدولارات.

وجانب آخر إيجابي، فنجد أن هذه الجائحة أجبرت الإنسان على تخفيف حدته في استهلاك البيئة، فنجد انخفاض مستوى ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي المحيط بالأرض ووجود بيئة أكثر نظافة. مع ذلك، حذرت دراسة حديثة من أن العالم قد يقفز من مقلاة "كوفيد- 19" إلى نار المناخ، ما لم تتدخل الحكومات لتحويل الاقتصادات إلى مسارات أكثر نظافة أثناء التعافي من الفيروس.

وبالعودة إلى التأمل ومعناه التقييمي، فنتأمل في السماوات والأرض وما بينهما ومدى الجمال والحسن فيهما، وحركة الكواكب حولنا، وكل يسير في مداره بدقه متناهيه وعلى مدار الآف السنين. وهذا دون تردد يجعلنا نوقن بأن وراء خلقهم خالق عظيم ليس كمثله شيء سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه خلق كل شيء فأحسن صورته وأتمها على أفضل وجه. كما أنه سبحانه قد بين لنا كل شيء نحتاجه للحياه الكريمة المستقرة والناجحة، ولم ينس أو يفرط في أي جزء من أجزاء تلك الحياة على هذا الكوكب المسمى بالأرض.

وهذا يدفعنا للتأمل وتقييم ما قمنا نحن كبشر به من عمل فافسدنا الأرض (برها وبحرها) والسماء وما بينهما، واشتعلت الصراعات بيننا تارة من جل قطعة أرض وتارة من أجل حفنة أموال وتارة أخرى من أجل الانتصار للنفس غير العاقلة. وهنا يقوم المولى عز وجل بتذكيرنا (وليس الانتقام بعد) لكرمه وعطفه مع خلقه، كما حدث مع بني إسرائيل عندما أرادوا أن يروا الله جهرة حتى يؤمنوا بموسى عليه السلام، فاخذهم الله ثم بعثهم من بعد موتهم وأنزل عليهم المن والسلوي.. كل هذا للتذكير والتأمل والاعتبار.

منذ يومين أعلن رئيس الدولة المهيمنة على العالم أن عدو دولته الأول هو فيروس كورونا، وأن هذا الاعتداء الذي تتعرض له دولته أشد وأعنف من هجوم بيرل هاربر (الذي كانت نتيجته مشاركة أمريكا في الحرب العالمية الثانية) وهجوم برجي التجارة (الذي كان بسببه غيرت أمريكا النظام العالمي). كما قال أن الفيروس غير المرئي (كوفيد-19) هو العدو الحربي الأول على بلاده. ومن خلال دراسة قامت بها جامعة "إم أي تي" الشهيرة في الولايات المتحدة عام 2007 عن وزن الفيروسات من عائلة كورونا، وكانت التجارب وقتها على فيروس سارس. فوجدت أن وزن الفيروس المنفرد لا يتعدى 0.85 أوتوجرام، وهذا يمثل واحدا من مليون التريليون الجرام، أي واحد على واحد وأمامه 18 صفر من الجرام.

وقد ذكرت بعض التقارير أن مريض كورونا يجب أن يصاب بحوالي 70 مليار فيروس، وعدد المصابين بالمرض حول العالم حتى الآن يبلغ ما يقرب من مليونين ونصف تقريبا. بعملية حسابية نجد أن مجموع أوزان الفيروس الذي أصاب البشرية شرقا وغربا وجعلها تركع أمامه، والذي هو العدو الأول للسيد ترامب ومن على شاكلته، في حدود الجرام وزنا أو أكثر قليلا.

وفي الختام، وبغض النظر عن الأرقام والحسابات، فإن الفيروس وهو جندي غير مرئي من جنود ربك استطاع أن يحبسنا في بيوتنا ويغير نمط حياتنا لنتذكر. لذلك فإن ما نعيشه من وباء يحتاج للتفكير والتأمل والتقويم الصادق، وإذا كانت الذكرى للبشر جميعا مسلمين وغير مسلمين، فإنه لن ينتفع بها ويتعظ منها ويتدبرها ويتأملها جيدا إلا المؤمنون.

فنسأل الله سبحانه وتعالى، ونحن في هذا الشهر الكريم الذي نزل فيه القران العظيم أن يجعلنا ممن يتأمل ويتعظ وينتفع بالذكرى.

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل..