عندما تجلس إلى المفكر والمؤرخ التونسي والعربي الكبير هشام جعيط في مكتبه ببيته بين مئات من المصادر والمراجع بعدة لغات قد تغفل أن مخاطبك بلغ 85 عاما قضى أكثر من 60 منها يحقق في المخطوطات ويقدم قراءات نقدية لدراسات كبار المفكرين والفلاسفة والمؤرخين وخاصة لمؤلفات المستشرقين والخبراء في الدراسات الفسلفية والتاريخية و المختصين في السياسة الدولية المعاصرة.
قدم لي الأستاذ هشام جعيط كتابا جديدا أكمله عن التاريخ الإسلامي.. ومجلدا أنيقا أعدته دار سيريس للنشر التونسية ضمنته الأجزاء الثلاثة من بحثه المطول الذي أعده عن سيرة النبي محمد ومرحلة "فجر الإسلام" وأثار جدلا وترجم مثل أغلب كتبه إلى عدد من لغات العالم.
بدا جعيط كعادته فخورا بمشروع كتاب جديد يعده عن تاريخ الأديان وبقراءاته المحينة لتاريخ الأديان وللتاريخ الإسلامي ثم لواقع العرب والعالم اليوم.. بعد الثورة التكنولوجية وانتشار ما وصفه بـ "الأمية الفكرية" داخل النخب الحداثية والحركات السياسية اليمينية واليسارية وما يسمى بـ "تيارات الإسلام السياسي"...
فتح قلبه لنا فكان الحوار التالي:
س ـ منذ حوالي 50 عاما يناقش الكاتب والمفكر والمؤرخ هشام جعيط اشكاليات الإصلاح والنهضة في العالم العربي الإسلامي في علاقة بتجارب ببناء "الدولة الوطنية" الحديثة في أوروبا. ناقشت مفاهيم عديدة للوطن والأمة والدولة القومية والإسلامية والوطنية. فكيف تنظر اليوم إلى هذا الملف وسط تعمق الهوة بين أنصار "الدولة القطرية" (بضم القاف) والمشاريع السياسية للتيارات الوحدوية القومية العروبية والإسلامية؟
ـ الأوضاع تراوح مكانها. وتبين بعد قرن من انهيار الخلافة العثمانية وبعد عشرات السنين من بروز دعاة الدولة القومية والوحدة الإسلامية أن السياسيين الذين يؤمنون بـ "الدولة الوطنية المصغرة"، مثل الحبيب بورقيبة، كانوا أصح.
بقي حلم بناء دولة الحرية والاشتراكية والوحدة القوية أو الدولة الإسلامية الكبيرة التي تقام على أرض الخلافة السابقة طوباويا.
انتصر مفهوم الحكام البراغماتيين للدولة الوطنية الجديدة، رغم مشاعر الانتماء داخل كامل العالم الإسلامي لأمة واسعة بأبعادها الثقافية والحضارية..
وتبين أن أغلب السياسيين الجدد ليس لديهم رؤيا ولا فكر سياسي واضح عن الدولة الوحدوية الكبرى ولم يقدموا لها مرجعيات فكرية متكاملة مثلما فعل المفكر ميشيل عفلق في مؤلفاته وخاصة في كتابه "في سبيل البعث".
وقد ولد ميشيل عفلق في دمشق في 1910 ومات منفيا في العراق في 1989 دون أن يحقق الأحزاب البعثية التي تنتسب إليه حلم الدولة القومية.
وسجلت نفس الظاهرة بالنسبة للكتاب والسياسيين الوحدويين الإسلاميين مشرقا ومغربا. بقيت خواطرهم وأفكارهم عن الدولة الإسلامية المعاصرة طوباوية وحبرا على ورق.
بل لقد تعمقت الهوة في الدول التي تبنت القومية والوحدة ذاتها. وابتعد الساسة ورجال الدولة عن أفكار ميشيل عفلق وصديقه منذ أيام الدراسة صلاح البيطار (1912 ـ 1980) اللذين أسسا معا حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا، ورغم تحمل صلاح البيطار مسؤوليات كبيرة في الدولة وقيادة الحزب في سوريا في مرحلة الوحدة مع مصر وبعدها.
التيارات السياسية التي تفتقر إلى مفكرين قد تنحرف نحو العموميات ثم نحو العنف اللفظي والمادي
ـ المفكر والشاعر الهندي محمد اقبال لعب دورا مهما قبل الحرب العالمية الثانية بمؤلفاته وأشعاره ونجاحه في تعلم اللغات الهندية (الأوردو) والفارسية والعربية والأنجليزية.. وتجاربه في ألمانيا وبريطانيا وإسبانيا.. وساهم في وضع أركان تأسيس دولة الباكستان..
وقد أثر المفكرون الكتاب الهنود، ثم الباكستانيون، في الدول العربية والفكر السياسي الإسلامي الدولي ثم في الجماعات الإسلامية، مثلما تأثرت الدولة العربية والإسلامية منذ العهد العباسي بالثقافات الهندية والصينية واليابانية واليونانية وبتراث بقية الأديان وخاصة الدين اليهودي والدين المسيحي ..
لم تنتج أحزاب "الإسلام السياسي" مفكرين ومجددين من حجم محمد عابد الجابري وعبد الله العروي ومحمد أركون وحسن حنفي وميشيل عفلق..
"الصحوة الإيمانية" دون وعي وعمق معرفي تتطور إلى صراع عنيف مع الدولة والمجتمع والنخب وإلى خلط بين الجهاد والإرهاب.
ـ شخصيا ولدت في عائلة فقهاء دين وقانون.. في عائلة محافظة ثقافيا ودينيا لكني تأثرت مبكرا منذ الثامنة عشرة من عمري بالفلسفة والفلاسفة الغربيين..
وأعتقد أن اكتشاف الفلسفة مهم جدا للمفكر والباحث في تاريخ الأفكار والأديان والثقافات والحضارات ثم في فهم المتغيرات السياسية.. الفلسفة والدراسات التاريخية تساعد على التخلص من منطق "البديهيات" و"المسلمات" والفكر الجامد..
فشل مشاريع بناء الدولة الحديثة أفرز معارضات يسارية ويمينية تفتقر إلى "رؤيا" غلب عليها الارتجال و" ردود الأفعال"
لم تستوعب الحركات اليسارية والقومية والإسلامية أن انهيار "دولة الخلافة " ومشاريع الوحدة منذ قرن أقنع الشعوب والساسة بمزايا "الدولة القطرية"
الجامعات والنخب ووسائل الإعلام لم تعد تساهم في بلورة فكر عربي إسلامي تجديدي وتلازما بين مشاغل جيل اليوم و شعارات التحديث والانتقال الديمقراطي .
ـ الحداثة والدولة الديمقراطية المعاصرة والحداثة والقيم الإنسانية الكونية برزت أساسا في أوروبا والغرب.. وأصبحت هذه القيم بالنسبة للمختصين في "تاريخ الزمن الراهن" والمختصين في الفكر السياسي المعاصر غربية عن تيار كبير من الساسة والمصلحين العرب والمسلمين الذين لم يستوعبوا التقدم العلمي والفكري والأدبي والثقافي والتكنولوجي.
صحيح أن الدولة الوطنية شجعت في العالم العربي الإسلامي التعليم والتعليم العالي والبحث العلمي والدراسات التكنولوجية لكنها لم تنجح في تخريج دفعة كبيرة من العلماء والمفكرين ممن يكون لديهم عمق معرفي فسلفي وتاريخي بما في ذلك تاريخ الأديان والأفكار وعلاقة بين الحروب والنزاعات المسلحة والمشاريع الاستعمارية القديمة والمعاصرة بالصراعات ذات الصبغة الحضارية التي توظف فيها قراءات للدين.
توظيف استعماري جديد
س ـ بعد عقود من هيمنة المنهجية "الأوروـ مركزية " على كتابات المفكرين والمؤرخين والفلاسفة وعلماء الأديان في الغرب انتشرت مجددا ظاهرة "محدودي المعرفة" بالمصادر وكتب السيرة والوثائق الأصلية.. وقد انتقدت مؤخرا بعض الكتب والكتاب واتهمت أصحابها بالسطحية والابتعاد عن المنهجية العلمية وبتوظيف التراث الإسلامي منذ الدولة العربية الإسلامية الأولى خدمة لمشاريع استعمارية جديدة..
ـ بالفعل تعاقبت الكتب "التبسيطية" والموظفة للإساءة للتراث العربي الإسلامي.. ربما بهدف ضرب ما يسمى بحركات "الإسلام السياسي" التي تطورت أحيانا من المطالبة بالإصلاح والتحرر الوطني إلى العنف والإرهاب باسم الجهاد.. مثل داعش والجماعات المتشددة المقاتلة في العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان..
(تنقل من مكانه وسحب من مكتبه إصدارا جديدا ضخما بالفرنسية وصله مؤخرا قدمه لي قائلا ..)
على سبيل المثال صدر مؤخرا (في موفى 2019) على سبيل المثال كتاب ضخم في فرنسا تحت عنوان "قرآن المؤرخين" (Le Coran des Historiens) وصلتني نسخة منه .
توقعت أول الأمر أنه سيكون فعلا محاولة تأليفية وقراءات تركيبية تحليلية للسيرة النبوية ولفحوى القرآن الكريم ولتطور فهم المسلمين له خلال 14 قرنا ونيف، وخاصة خلال الخمسين عاما الماضية التي برزت فيها الأبحاث والدراسات المختصة في ديانات الشرق وفي التراث الإسلامي وأدبيات الحركات الإسلامية وشعاراتها وممارساتها .
لكني اكتشفت أن الكتاب أعد أساسا لمزيد نشر تقييمات سطحية ومتسرعة للقرآن والسيرة وللإسلام والمسلمين.
للأسف تزايدت المنشورات السطحية الصادرة عن بعض الكتاب والباحثين والمستشرقين الغربيين، وخاصة في فرنسا، بهدف محاصرة المفكرين والمستشرقين الألمان وبعض الخبراء البريطانيين والأمريكيين الذين قدموا أبحاثا أعمق للقرآن والإسلام ولمفاهيم الأمة والدولة والخلافة والمجتمع ونظم الحكم والشريعة..
خيبة أمل الشباب من نخبه والثورة التكنولوجية وقيم العولمة قلصت من دور الدولة الوطنية والمرجعيات الثقافية الوطنية والعربية الإسلامية
هناك شيطنة واضحة لكامل التاريخ الإسلامي وتبسيط لمضامين بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.. وسجلت في هذا الكتاب مثلا خلط بين أحكام الحدود في الفقه الإسلامي وتاريخ الدول العربية والإسلامية ومقاصد التشريع الإسلامي وبقية المجالات التي اهتم بها العلماء والفقهاء والفلاسفة المسلمون والعرب ماضيا أو في الحقبة المعاصرة.
وفي الوقت الذي ننقد فيه بعض الدراسات والمؤلفات الفكرية والفسلفية والتاريخية والسياسية الغربية يجب أن ننقد مع عابد الجابري وعبد الله العروي ومحمد أركون أنور عبد المالك وحسن حنفي وغيرهم الصورة "النمطية" عن الدولة الإسلامية والتراث في مؤلفات كثير من الكتاب والسياسيين العرب والمسلمين..
نحن لم نعد اليوم في مرحلة "أخذ ما يصلح لنا من الغرب" حتى "استرجاع قوتنا القديمة كما كانت زمن الخلافة والدولة الاسلامية القوية الممتدة جغرافيا "،بل نحن نواجه أزمة وجود تاريخي جيو سياسي وثقافي وحضاري ...
إن المعطيات الجديدة والمتغيرات تفرض على المسلمين نخبا وحكاما وشعوبا أن يستوعبوا التحديات الجديدة، وأن يتجاوزوا الأطروحات القديمة بما في ذلك ثنائيات الهوية والحداثة والتراث والقومية والإسلام السياسي..
س ـ لماذا ؟
ـ لأنه لم يعد قيمة لمثل هذه الأطروحات من وجهة الفكر المنهجي والقراءات العلمية الحالية..
على العرب والمسلمين والمختصين في دراسة تطورات الفكر والسياسة والمستجدات الجيو استراتيجية تجاوز المنهجيات القديمة التي تنبئ بعجز عن طرح الإشكاليات الحقيقية ومرفع التحديات الحالية وحسم الأمور في الواقع. الدول والنخب في العالم الإسلامي ضحية قرون من التأخر الفكري والعلمي والاقتصادي طال العالم الإسلامي كله منذ عام 1700 إلى حدود عام 1920. ومنذ حوالي قرن برزت نهضةٌ اقتصادية وتقنية وسياسية في مجالات عديدة في دولنا. لكن هذه النهضة لم تبرز في مجالات الثقافة والابداع الفكري والمعرفي ، فتفوق الآخر أكثر ..
الإسلام والدولة الوطنية
س ـ بالنسبة لمفهوم الدولة الوطنية، هل تهدّده فعلًا فكرة الخلافة التي تنادي بها الحركات الإسلامية الراديكالية، وكذلك السلفيون؟
ـ الدولة الوطنية مفهوم غربي نشأ متأخرًا، بداية من القرن السابع عشر. وهو مفهوم نسبي اليوم، بفعل توجّه الدول الغربية نحو بناء تكتلات اقتصادية كبرى، مثلما حصل في أوروبا، التي اتجهت نحو بناء وحدة أوروبية، رغم أن الوحدة السياسية لا تزال تواجهها صعوبات حقيقية بل لقد أصبحت الوحدة الأوروبية مهددة بعد انسحاب بريطانيا وتلويح دول أخرى بالانفصال.. وعادت يافطات الدولة الوطنية القومية لتفرض نفسها من جديد.
مشروع الدولة الأوروبية الموحدة التي يمتد نفوذها على كامل القارة الأوروبية أصبح من جديد مهددا، ولا يزال يصطدم برغبة قوية في الحفاظ على السلطة القطرية كاملة.
ثبت أن "الدولة الاتحادية الأوروبية الكبرى" و"الدولة القومية المصغرة" تواجهان ضغوطات داخلية خارجية، ومن قبل منظّمات مالية عالمية وشركات متعددة الجنسيات، تجنح إلى ترسيخ العولمة بشروطها.
أمّا مفهوم الدولة / الأمّة في المنطقة، فقد نشأ في أعقاب انهيار الخلافة العثمانية. لكن حتّى في ظلّ هذه الخلافة، يُلاحظ بأن الخصوصيات القطرية قد صمدت، وكانت تعبّر عن نفسها بأشكال متعددة.
كتابي "الشخصية العربية الإسلامية" قدم رؤيا لعلاقة الدولة بالدين في واقع المسلمين تاريخيا
مفكر جزائري: ازدهار عملية التفلسف يتبعها انبعاث حضاري
كاتبة تونسيّة: أدب الطفل ترياق الجريمة والإرهاب
تونس.. جدل فكري على هامش أسبوع أفلام المقاومة والتحرير