كتاب عربي 21

البرهان اختار فرز الكيمان

1300x600
الكيمان في العامية السودانية هي جمع "كوم"، والكوم فيما تقول قواميس اللغة هو "كلُّ ما اجتمع وارتفع له رأسٌ من تراب أو رمل أو حجارة أَو قمح، أَو نحو ذلك". وفرز الكيمان عند أهل السودان هو انفصال فرد أو مجموعة عن طرف أو أطراف أخرى، وتشبهه في المعنى والدلالة عبارة "فرز العِيشة"، وتعني فض الشراكة في أمور المعيشة، فيما تسميه شعوب عربية أخرى "كل حي يروح لحاله".

التقى رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في عنتبي بأوغندا، وعندما ارتفعت الحواجب والحناجر بالدهشة، برر ذلك بأنه معنيٌّ بأمن ومصلحة البلاد، ثم صدر بيان توحي صياغته بأنه من أصدره يقول فيه، إن البت في أمور السياسة الخارجية والعلاقات الدولية شأن يخص المؤسسات "المعنية".

ولأن الحكومة الراهنة في السودان نتاج ثورة شعبية كاسحة، وإحدى مهامها الأساسية تكريس حكم القانون والشفافية والمؤسسية، فقد أصدر مجلس الوزراء الذي معظم أعضائه من المدنيين؛ بيانا يستنكر فيه في لغة مهذبة، أي تلميحا، انفراد البرهان بمهمة هي من صميم مهام مجلس الوزراء. ولكن الكيان الذي تولى تشكيل الحكومة (قوى الحرية والتغيير "قحت") وفي قلبه تجمع المهنيين السودانيين الذي انفرد حينا من الدهر بقيادة الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم المشير عمر البشير، ثم بادر بدعوة القوى الممثلة في قحت للمشاركة في الحراك الثوري.. ذلك الكيان أصدر بيانا رفض فيه صراحة وبقوة لقاء البرهان نتنياهو وما ترتب عنه.

وكان المرجو هو أن تقف الملاسنات عند ذلك الحد، ولكن من الواضح أن حملات الاستنكار والرفض تلك أغضبت البرهان، وهو العسكري المحترف، الذي، وبحكم "التربية" لم يألف النقد وعصيان الأوامر من مرؤوسيه، فالتقى بالصحفيين، مؤكدا أنه فعل ما فعل حرصا على مصلحة الوطن، ثم قال لهم إنه استشار رئيس الوزراء السوداني د. عبد الله حمدوك في امر الالتقاء بنتنياهو.

وعلى الفور، أصدر مجلس الوزراء بيانا جاء فيه أن "رئيس الوزراء لم يكن على علم بزيارة رئيس مجلس السيادة إلى عنتبي ولقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي، ولم يحدث أي إخطار أو تشاور في هذا الأمر، و.. إننا نُمثل حكومة ثورة، حملت شعارات الحرية والسلام والعدالة، وألهمت المناضلين والتواقين للحرية والعدالة في كل أنحاء العالم، ولا يمكن أن يكون من أولوياتها في هذا الوقت الانقلاب على شعارات الثورة والتنكر للشعوب المضطهدة والمناضلة".

الحكم الحالي في السودان يقوم على زيجة أكثر هشاشة من زواج المتعة بين القوى المدنية التي فجرت الثورة التي أتت بالبرهان وحمدوك وغيرهما والعسكريين، الذين ركبوا قطار الثورة بعد أن ظل سائرا لقرابة خمسة أشهر، ولكن ركوبهم إياه عجّل بتحقيق أهم أهداف الثورة، وهو الإطاحة بحكم عمر البشير. ولا يفتأ العسكريون يرددون كلما اعتلوا المنابر أنهم أصحاب السهم الأكبر في تلك الثورة، بينما ترى قوى مدنية كثيرة أن العسكر انحازوا للثورة من باب ركوب المضطر للصعب.

الوضع في السودان الآن ينذر بالخطر، فقد قرر البرهان وصحبه فرز الكيمان، فصدر عن القيادة العليا للقوات المسلحة بيان يبارك إقدام البرهان على السير في طريق التطبيع مع إسرائيل "لحرصه على مصالح البلاد العليا... مما استوجب اتخاذ قرارات جريئة". والبرهان هو القائد الأعلى لتلك القوات المسلحة، وبداهة ما كان لها ان تخوض في شأن سياسي- مدني لا يخصها في شيء إلا بإيعاز منه.

ثم تواصل تحشيد العسكر خلف البرهان، فخرج على الناس بيان أصدره كيان يحمل اسم "قدامى المحاربين وضحايا الحروب"!! يحمل توقيع لواء وعميد متقاعدين؛ يبارك لقاء البرهان- نتنياهو، مسخرا القرآن والحديث لتلك الغاية "ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات اينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير"؛ "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها"، و"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".

وهكذا اكتمل اصطفاف القيادات العسكرية خلف البرهان، وهو ما اعتبرته منظمات الثورة المدنية مشروع انقلاب عسكري، بينما حرص البرهان على نفي ذلك معلنا التزامه بالدفاع عن الديمقراطية.

وهكذا، فإن بحث البرهان مع نتنياهو أمر اعتراف السودان بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها لم يعد القضية المركزية في الخرطوم الآن، بل ما إذا كان التحالف العسكري- المدني في الحكم قابلا للاستمرار، عندما يتعدى شاغل أعلى منصب في الدولة على اختصاصات "حكومة" بأكملها، ثم يستقوي بالمؤسسة العسكرية، عوضا عن الاعتذار الصريح عن الخطأ الصريح، و.. جلَّ من لا يخطئ.