القاصي والداني يعرف أن خليفة
حفتر يريد استنساخ حقبة الأربعين السوداء (1969- 2011م) التي جثم فيها
القذافي على صدر الشعب الليبي ديكتاتورا مجنونا يتحدث التاريخ عن خبله وهوسه طويلا مثلما يتحدث عن نيرون الإمبراطور الروماني صاحب الهرطقة والمحرقة كما يقولون نسبة لحرقه لروما عام 64م.. حفتر يقول في نفسه إذا كان الليبيون الطيبون قد صبروا واحتملوا القذافي ديكتاتورا استمتع بلذائذ السلطة والثروة والتحكم في أعناق البشر أربعين عاما، إذن فلا مشكلة من أربعين أخرى لي ولأولادي..
الرجل رأى أن السلطة في
ليبيا ملقاة على قارعة الطريق ولم يستطع أحد خطفها.. هي لي إذن! وجاء الرجل من أمريكا التي مكث فيها 20 عاما أو جيء به.. لا فرق، فالمؤكد أنه لم يستطع أن يبدأ ما بدأه ويستمر فيه إلى اليوم دون ترتيبات خبيثة.. المؤسف (وكما سنعرف في السطور القادمة) أنه لم يكن هناك جيش ليبي مؤسسي بالمعنى المتعارف عليه للجيوش؛ تماسكا وتراتبا وانضباطا وتاريخا.. ولو كان كذلك لاستمر هذا الجيش في وجوده الواضح الصلب رغم الثورة، كما حدث في مصر وتونس والسودان والجزائر.. ما حفتر الا قائد مليشيا مثله مثل غيره من قادة المليشيات مع اختلاف الدوافع والطموحات والتحالفات.. ليس هذا فقط، ولكنه كان عند "العم سام" في رحلة ذهاب وإياب مليئة بالريبة المستريبة استرابا مريبا! فكيف يمكن لمثله أن يصنع مستقبلا واعدا لأمة ثارت وقامت ضد ديكتاتور لا مثيل له في التاريخ الحديث؟.. هو لا يعدهم الا باستنساخ حكم وسلطة هذا الديكتاتور.
وكي لا يغيب عن وعينا وذاكرتنا ما ينبغي ألا يغيب.. سنستمع إلى شهادة خمسة من شركاء القذافي في الحكم والسلطة طوال العقود الأربعة الماضية السوداء التي يريد القذافي الجديد (حفتر) أن يكررها حذوك النعل بالنعل كما يقولون.
الشهود الخمسة هم: عبد السلام جلود وعبد المنعم الهوني وعبد الرحمن شلقم وعبدالسلام التريكي ونوري المسماري.. وهي شهادات حصل عليها أ/ غسان شربل الصحفى المعروف عبر مقابلات مطولة معهم ونشرها في كتاب صدر عام 2013 عن دار رياض الريس بعنوان "في خيمة القذافي.. رفاق العقيد يكشفون خبايا عهده".. يتحدث فيه الرفاق عن خبايا القذافي ونظام حكمه الدموي الذي دام لأكثر من أربعة عقود؛ شهدت خلالها ليبيا ديكتاتورية يندر أن يكون لها مثيل في أي بلد في العالم في العصر الحديث.
ديكتاتور أطلق العنان لجموحه ليفعل في شعبه ما لم يفعله حاكم في التاريخ.. ضيع ثروته وفكك دولته وحطم جيشه، وحرم ليبيا من أن تكونا وطنا كريما لشعب كريم.
يقول أ/ غسان: "كان القذافي مصابا بمتعة إذلال الآخرين، مقامرا فظا لا حدود لحقده، يكره الاعتدال والمعتدلين.. كان يستعذب اللعب بالمصائر.. في رأيه أنه لا تتسع البلاد لأكثر من رجل.. إنه القائد الملهم العلامة الأب الحنون، صاحب الرؤية الثاقبة والقبضة المشعة، حارس التاريخ المؤتمن على الحاضر الممســـك بمفاتيح المستقبل.. رمز الكرامة والعنفوان، موزع الخبز والأحلام، موزّع الرعب وولائم الصمت الطويل، هذه بلاده وهو يملك كل شيء فيها.. الأرض والغيوم التي تمر فوقها.. الآبار والقبائل المبدَدة على جوانب فوهاتها.. يستبيح الأرض والكرامات والثروة إنه الرجل الوحيد إنه المغتصب الكبير..". هكذا وصفه الكتاب.
اعتبر القذافي القديم أن الزعامة العربية حقا من حقوقه بسبب جملة إشادة صغيرة أسبغها عليه "الزعيم الخالد" قالها له الرجل، وقد كان يعني ما يقول "إنني أرى فيك شبابي!!".. كان يرى فيه الديكتاتورية الكامنة في أعمق أعماقه.. ومن طريف ما يحكى أنه كان في السنوات الأخيرة من حكمه يرسل طائرته الخاصة إلى الراحل الأستاذ هيكل ليتسامرا ويتناجيا حول سيرة "الصنم المعبود على جثة شعبه كما قالت الراحلة اليسارية أروى صالح" والأستاذ هيكل. كما روى لي أحد أقرب تلامذته الذي عرفه من 55 عاما عن قرب أنه كان "يحتقر الشعوب والجماهير.. يعشق الجيوش والملوك والأباطرة والطغاة".
وعودة إلى كتاب الأستاذ شربل، فيقول عن الطاغية: "حاول الحضور في لبنان (مصنع الزعامة العربية) لكن لعبته تكشفت باكراً.. تعامل كثيرون معه بوصفه مهرجا أو جامحا.. عثر بالتأكيد على شعرائه ومداحيه وحملة المباخر.. لكنه عاد من الرحلة خائبا بعدما أنفق ثروات في محاولة شراء الذمم واستئجار الضمائر.
يئس من العرب فاتجه إلى القارة السمراء.. عثروا له هناك على تاج وصار اسمه "ملك ملوك أفريقيا".. كان يستمتع باحتقار قادة القارة.. يستيقظ ويقول لأمين المراسم: "هات العبد"، ويقصد الرئيس الأفريقي الزائر.
لا مكان في بلاد "القائد التاريخي" لسبابة ترتفع أو لنظرة تشكيك.. سيذهب أبعد من ذلك.. سيفكك الجيش الذي أوصله إلى القصر خوفا من أن يكرر ما فعله وينقلب عليه، وسيحوله إلى ألوية يوزعها على أبنائه.. سيفكك الدولة وسيجعل الفوضى فيها هي القاعدة، وسيسمم العلاقات بين أفراد الشعب ويجعلهم جواسيس على بعضهم.. لا مكان للحياد.. تعمل في خدمته فيغرقك بعطاياه أو يسد جوعك بالفتات.. تبتعد عنه فيحل عليك غضبه.. وإن جاهرت بعدائك تنتظرك رصاصة أو شاحنة موتورة أو تتعفن في ظلام السجن.
كانت مهمته الأولى تحويل شركائه في انقلاب 1969 إلى موظفين لديه.. بالبراعة والقسوة والمكيدة ابتلع والتهم "مجلس قيادة الثورة".. أفسدهم وطوّعهم وحوّلهم من رفاق إلى عبيد.. ومن يتردد في الانحناء يقهره.. تماما مثل ما فعل أستاذ الطغاة العرب في العصور الحديثة.. الذي منع أحد رفاقه من حضور جنازة أبيه "كمال الدين حسين"، بل وطرد ابنه الطالب من الكلية الحربية..
سيشهد في الكتاب عبد المنعم الهوني، الذي كان عضواً بارزاً في مجلس قيادة الثورة والحكومة قبل أن ينشق في منتصف السبعينيات ويتعرض لمطاردة طويلة من أجهزة القذافي.. سيعود الهوني لاحقا في شبه مصالحة.. شرط الإقامة في القاهرة ممثلاً لبلاده في الجامعة العربية ثم ينشق بعد اندلاع الثورة.
سيشهد عبد السلام جلود "الرجل الثاني" في النظام، والذي سيعيش في ما يشبه الإقامة الجبرية، وستوفر له الثورة فرصة الشماتة وتوجيه ضربة ثأرية إلى الطاغية.
سيحكي عبد الرحمن شلقم الأبرز في الديبلوماسية الليبية في عهد القذافي.. من وزارة الخارجية إلى مقعد مندوب ليبيا في الأمم المتحدة.. كان دور شلقم كبيرا وحاسما في مجلس الأمن الدولي بموافقته على القرار الشهير الذي أدى إلى اقتلاع الديكتاتور.
سيحكي أيضا علي التريكي الذي كان حاضرا على مدى عقود في العلاقات الدولية وخصوصا في علاقاته الأفريقية.. سيقول لنا نوري المسماري إن ضابطا صغيراً اسمه عبد الله السنوسي أرسل إليه في عام 1978 ثلاثة جوازات سفر لوضع تأشيرات إلى إيطاليا عليها وكانت الباسبورات للإمام موسى الصدر ورفيقيه..
سيصير السنوسي كبير الجلادين في النظام ورئيس الاستخبارات العسكرية وبطل مذبحة سجن "بوسليم" التي أودت بأكثر من 1200 سجين. حزن صموت وأيام تفوت.. شهادات مهمة وخطيرة تلك التي سجلها أ/ غسان في كتابه على أحد أكبر الطغاة في العصر الحديث.. أهميتها في التوثيق التاريخي لحقبة سوداء ومخزية عاشها الليبيون الطيبون.. وخطورتها في التنبيه والتحذير مما قد يكون أشد سوادا وخزيا.