لا شك في أن الكثير من
التونسيين يتذكرون موقف السيد نجيب الشابي قبل ظهور نتائج انتخابات المجلس
التأسيسي. فقد أعلن هذا الزعيم السياسي (وهو من أبرز رموز المعارضة المعترف بها في
عهد بن علي، وقائد الحزب الأوحد الذي سمح للإسلاميين بالنشاط القانوني صلب هياكله)،
أنه سيكون في المعارضة في صورة فوز
النهضة في انتخابات المجلس التأسيسي، وهو ما
حصل فعلا، ليترسخ الانحراف الخطير عن الاصطفافات الثورية (أي اصطفاف كل ضحايا بن علي
ضد المنظومة السابقة وورثتها) إلى الانقسامات الهوياتية التي ما زالت تحكم المشهد السياسي
التونسي إلى هذه اللحظة (أي الاصطفاف على أساس إسلامي/حداثي)، الأمر الذي استدمج
ورثة النظام السابق باعتبارهم جزءا من "العائلة
الديمقراطية"، ومهّد
لعودتهم إلى مركز السلطة بعد انتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية.
ولسنا هنا في وارد تحديد
المسؤوليات السياسية لكل طرف عن هذا الوضع "اللاسوي" من منظور استحقاقات
الثورة، أو من منظور الفلسفة السياسية للجمهورية الثانية. ولكننا
ذكرنا موقف السيد نجيب الشابي لأنه كان التجلي الأول والأهم(بحكم رمزيته ومكانته الاعتبارية قبل الثورة) لسلوك سياسي انتهجته وما زالت
تنتهجه أغلب "القوى المعارضة"، سواء منها السياسية أو المدنية أو
النقابية أو الإعلامية أو حتى الأكاديمية. وهو ما أدى واقعيا إلى انتقال مفهوم المعارضة
من مدار معارضة النظام الحاكم أو برنامجه إلى معارضة أحد أطرافه، وهو أساسا حركة النهضة.
فرغم أن المرحلة التأسيسية لم تكن تحتمل تنزيل مفهوم المعارضة بمعناه المعروف
لإدارة الخلافات السياسية، عمدت عدة أطراف سياسية وغير سياسية إلى تأكيد معارضتها
"الماقبلية" للنهضة. ولم يكن مستغربا بعد ذلك أن تنزاح المعارضة من
انتقاد أداء هذه الحركة، إلى معارضة ضمنية أحيانا وصريحة أحيانا أخرى لوجودها
القانوني ذاته.
ورغم عودة الحزب الاستبدادي
الحاكم قبل الثورة بواجهات سياسية مختلفة (كان أبرزها حركة نداء تونس)، لم نسمع
صوتا واحدا في"العائلة الديمقراطية" يعارض هذه
الأحزاب بمفردات
"الصراع الوجودي" أو منطق التنافي، بل كان النقد يتوجه إليها أساسا
بمقدار اقترابها من حركة النهضة أو تطبيع هذه الأخيرة معها في إطار ما سُمّي
بالتوافق. وهو ما يجعلنا نقول دون تردد إن الأحزاب التجمعية- الجديدة لم تكن هي
الموضوع المقصود بالنقد، بل كانت "الموضوع المتاح" في خطاب نقدي كانت
النهضة هي موضوعه الأصلي. ومن هذا المنظور، يمكننا اعتبار التشكيك في "تَونسة
حركة النهضة" و"مدنيتها"، أو اتهامها بالإرهاب (قضية الجهاز
السري)، أو تأكيد علاقتها بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين؛ جزءا من صراع سياسي يترسخ
تدريجيا باعتباره صراعا وجوديا مفتوحا على كل السيناريوهات الكارثية.
بل يمكننا القول إن
المعارضة التونسية (خاصة في شقها اليساري الاستئصالي) تدفعنا إلى تعديل مفهوم
المعارضة ذاته كما ورثناه عن اليونانيين. فإذا كانت المعارضة في الديمقراطيات
تستثني حمل السلاح على السلطة الشرعية (ومن باب أولى تستثني كل صور الانقلاب على
الإرادة العامة التي تُعبر عنها نتائج الانتخابات)، فإن المعارضة التونسية قد
استدمجت الانقلاب أو التحريض على التقاتل بين الأهالي، حتى صار استهداف حركة
النهضة جزءا بنيويا في خطاباتها وفي آليات إدارتها لعلاقتها بهذه الحركة. وهو خيار
يضمن تحقيق عدة أهداف ليس أقلها تخفيف الضغط على المنظومة القديمة (وإضعاف موقف
النهضة أمامها)، وكذلك منع أي تغير جذري في إنتاج وتوزيع الثروات المادية والرمزية
المترسب من نظام المخلوع، حتى لا تستفيد منه حركة النهضة والفئات أو الجهات التي
تُمثل قاعدتها الانتخابية.
ونحن نعلم أنه لا يمكن
اختزال المعارضة في اليسار الاستئصالي (زمن التأسيسي وحكم الترويكا) ولا في
التجمعيين الجدد (الحزب الدستوري الحر بعد انتخابات 2019)، لأن حزب التيار
الديمقراطي مثلا كان معارضة برلمانية غير مرهونة بحسابات المنظومة ولا بخلفية أيديولوجية
صدامية تجاه حركة النهضة. ولكن التيار الديمقراطي الذي كان قاطرة المعارضة
المسؤولة ما بين 2014 و2019، قد وجد نفسه بعد اتساع قاعدته الانتخابية وتمثيليته
البرلمانية يقترب بصورة ملحوظة من منطق المعارضة "الأيديولوجية"، رغم
ظاهر جملته السياسية المعقلنة والبراغماتية.
وسواء أدخل التيار الحكومة
القادمة أم بقي في معارضتها، فإن مواقفه تتقاطع بصورة لافتة مع مواقف المعارضة لحركة
النهضة، وإن كانت تتميز عنها بأنها تنتمي إلى "الاستئصال لايت"، أو ما
يسميه صديقي الدكتور نور الدين العلوي بـ"الاستئصال الناعم"، رغم
اختلافنا في ما يؤسس هذا المفهوم، حيث أسستُه على البنية العميقة لخطاب التيار الديمقراطي
وحركة الشعب، بينما أسسه الدكتور العلوي على استضعاف هؤلاء للنهضة بحجة عدم
مقبوليتها إقليميا ودوليا. وهي معارضة تنطلق من مصادرات معينة تختزلها في حركة
النهضة وفي حلفائها (خاصة ائتلاف الكرامة) دون سواهم، مهما تشابهوا في أطروحاتهم
الاقتصادية، ومهما اشتركوا في سقف "إصلاحيتهم" التي لا تعدو أن تكون
تعديلا جزئيا لآليات اشتغال المنظومة السابقة دون تغيير جذري في منطقها، وسياساتها
وخياراتها الكبرى محليا وإقليميا ودوليا.
فالتيار الديمقراطي الذي
أكد العديد من قيادييه أن النهضويين والمنتمين إلى إئتلاف الكرامة "ما
يشبهولناش" (أي لا يشبهوننا)، لا يجد حرجا في تشكيل كتلة برلمانية مع حركة
الشعب رغم اختلاف مواقف الحزبين من الثورات العربية ومن الانقلاب المصري، بل حتى
من حركة النهضة ذاتها. كما إن التيار الديمقراطي الذي يؤكد على اختلافه عن حركة
النهضة لا يجد أي تناقض في استدماج ضرائرها الأيديولوجيين في كتلته البرلمانية (منجي
الرحوي وعدنان الحاجي وفيصل التبيني).
ونحن لا نصادر على حق
التيار في التحالف مع من شاء، ولا نحاكمه على استدماج بعض رموز الصراع الهوياتي
والخطاب الاستئصالي ضمن كتلته، بل نريد فقط التنبيه إلى أن "جوهر
الصراع" الذي انزاح عن مقاومة منظومة الفساد والاستبداد إلى محاربة الوافد
الجديد عليها (أي حركة النهضة)،؛ سيحول بالضرورة دون ممارسة المعارضة لدورها
الحقيقي. وإذا ما أضفنا إلى ذلك وجود الحزب الدستوري الحر باعتباره وجودا
"لاوظيفيا" في أي مشروع إصلاحي، وأضفنا أيضا عدم وجود مسافة نقدية بين
"الكتلة الديمقراطية" وباقي مكونات المعارضة غير البرلمانية (كالاتحاد
العام التونسي للشغل وأغلب مكونات المجتمع المدني التي هي في الحقيقة امتداد وظيفي
للمجتمع السياسي"المعارض" أو المدجّن من لدن السلطة)، فإننا نستطيع أن
نستشرف مشهدا سياسيا مأزوما سيعيد إنتاج مشاكله وإشكالاته، بل سيعيد إنتاج حلوله
الزائفة التي لن تكون إلا استثمارا في الأزمة وترسيخا لها.