يشهد
الاقتصاد المصري تجميلا للأرقام وسلوكا مخالفا لواقع الحال، بفعل فاعل واضح للعيان. ولو تجاوزنا تخصيص مبلغ ثلاثة مليارات جنيه لبناء معبد يهودي في العاصمة الجديدة، في بلد رحل منه اليهود وتركوه من سنوات ولم يبق منهم إلا النذر المعدود.. هذه المليارات يحتاجها الفقراء والمعوزون، بعيدا عن الولاء المنشود للسلطة نحو من ظنت أنه ثبت كرسي حكمهت ودعم وجودها.
كما أنه لو تجاوزنا ما أعلن عنه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء من استمرار تراجع معدل التضخم في مصر للشهر الخامس على التوالي، مسجلا أقل معدلاته في تسع سنوات خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر، ليصل إلى 2.4 في المئة من 4.3 في المئة في أيلول/ سبتمبر لإجمالي الجمهورية، وانخفاض معدل التضخم في المدن إلى 3.1 في المئة مقابل 4.8 في المئة في الشهر السابق، مسجلا أيضا أقل مستوياته في تسع سنوات أيضا.. رغم أن واقع الحال يعكس اكتواء ظهر المواطن المصري من ارتفاع الأسعار وموجة الغلاء التي حولته من مستور إلى معدم فقير.
لو تجاوزنا كل ذلك لا يمكن أن نتجاوز عن إعلان
السيسي طرحه لبعض شركات
القوات المسلحة في البورصة، لكي تكون (بحسب زعمه) هناك فرصة للمصريين لأن يتملكوا أسهما في هذه الشركات.. في وقت لا يجد المصريون سوى جيوبهم الفارغة وآلامهم التي قضت على آمالهم.
إن هذا التصريح من السيسي لو كان في دولة تفتقد لعسكرة السياسة والاقتصاد معا، لكان مقبولا، لا سيما في ظل وجود سلطة ديمقراطية مدنية بعد حكم عسكري مسيطر. فالخصخصة ليست عيبا، بل هي الأصل في الاقتصاد الحر، فلا تنمية بدون قطاع خاص حر وعادل، ولكن في مصر الوضع يختلف تماما، فعسكرة الاقتصاد هي عنوان المرحلة بامتياز، والقطاع الخاص بات غريبا، ومن يعمل منه تحت مظلة العسكر هو من كتب له الاستمرار. ولا يمكن للسيسي ومن معه في يوم من الأيام أن يكشفوا أوراقهم وما تمتلكه القوات المسلحة من شركات تدير الاقتصاد لصالح قلة منها. ثم إنه ما قيمة الخصخصة في ظل شعار الأمن القومي المرفوع دائما كمبرر للفساد ومنع الشفافية والإفصاح؟!.. وإذا كانت خصخصة مبارك اتسمت بالفساد، فإن خصخصة العسكر لن تكون أقل فسادا وما الأمر إلا تغييرا في مقاعد المفسدين.
إن تصريحات السيسي ما هي إلا مناورة لإبعاد العين عن سلوك العسكر الاقتصادي الذي فاحت رائحته واشتكى صندوق النقد الدولي منه، لا سيما وأن الحكومة تسعى بكل جهد للحصول على قرض ثان من الصندوق، دون اعتبار لأثر مشكلة الديون التي انفجارها قادم لا محالة، ولن تترك أصلا محميا أو أخضر مرئيا.
كما أنه لو قدر لهذه الخصخصة أن تتم، فسوف تكون شكلية بعيدا عن المضمون، حيث ستكون الحصة المسيطرة بيد العسكر، وبذلك يضربون عصفورين بحجر واحد من خلال جمع الأموال وتوفير سيولة من جيوب المواطنين، وفي نفس الوقت التحكم في سياسة الشركات المخصخصة بفعل تلك السيطرة وشعار الأمن القومي. وقد لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل قد يكون ذلك التوجه هو بابا لانتهاك القوانين وعسكرة البورصة.
إن دخول العسكر في معترك الحياة الاقتصادية المصرية جريمة كبرى.. ليست في حق الاقتصاد المصري والقطاع الخاص فقط، بل في حق الجيش المصري نفسه، بتنحيته من باب حماية الحدود إلى دور مدني بحت يخص القطاع الخاص.. وهذا الدور للجيش المعاكس لنواميس الاقتصاد أدخله في متاهات لا تنقضى، وألبس أبناءه ثوبا لا يليق بمكانتهم العسكرية، وفي نفس الوقت دمر القطاع الخاص وجعلها عالة على المجتمع، وحال بينه وبين التطور والانتشار والمنافسة الشريفة، فتساقط أصحابه كما تتساقط أوراق الشجر في الخريف.
إن مصر في أشد الحاجة إلى جيشها، مكانة وكرامة وحماية، بعيدا عن العبث بالاقتصاد والمنافع الشخصية. فليعد الجيش إلى ثكناته، وليعد القطاع الخاص إلى ميدان الاقتصاد معمرا، ولتكن الخصخصة (لا سيما لشركات الجيش المدنية) هدفا تحققه حكومة مدنية منتخبة، لا عسكرية مغتصبة تتقن الخداع في لغة الأرقام وفي السلوك الاقتصادي، حتى بات الاقتصادي المصري فيه من المضحكات المبكيات ما يثير الانتباه، بل والاشمئزاز.