سؤال يتردد في أذهان الكثيرين: لماذا يحتقر ويكره كل طاغية القيام بدراسات اقتصادية أو دراسات مستفيضة، أو أي حوار مجتمعي حول أي مشروع قومي أو أي مشروع ضخم؟ لماذا يخافون من القيام بأي دراسة؟ الجواب باختصار لأن الدراسات الدقيقة الجادة تقوم على حرية تداول المعلومات والشفافية في تحديد تكلفة كل مشروع، وآثاره الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وكيفية تمويله والعوائد المباشرة وغير المباشرة.
هناك دراسات موجهة مثل ما تقوم به بعض البنوك الاستثمارية المغرضة (جولد مان ساكس مع مشروع نيوم مثالا)، وبعض مؤسسات الدولة تقوم أيضا بدراسات مضروبة لخدمة أهداف محددة سلفا، وهؤلاء هم طيور الظلام الذين يعملون في الخفاء، ويقومون بمحاولة التأثير على الرأي العام والمستثمرين البسطاء بالبروباجندا والدعاية الكاذبة والعبارات الرنانة، دون أي تفاصيل نقدية توضح أبعاد ومزايا وعيوب كل مشروع.
من أساسيات الدراسات الاقتصادية ودراسات الجدوى الناجحة، بل وتعتبر القاعدة الرئيسية أن يتم النقد الموضوعي والتحليل النقدي الدقيق لكل الاقتراحات دون الانطلاق من أنها مسلمات "Challenge The Assumption".
على سبيل المثال، حينما قام الجنرال
السيسي بعد انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013 بالدعوة بشكل دعائي مهول لمشروع توسعه قناة السويس، وعمل تفريعة جديدة، وتم رصد أكثر من ثمانية مليارات من الدولارات لهذا المشروع، وتم الترويج بأن القناة سيتضاعف دخلها خلال ثلاث سنوات من تشغيل التوسعة، على افتراض أن التوسعة ستسمح بمرور أكثر من 100 سفينة يوميا، في حين أن أي باحث مبتدئ يعلم تماما أن الإيرادات يتم تحديدها بدقة طبقا لعدد السفن المارة وحجم التجارة العالمية والمتوقعة لنمو هذه التجارة خلال عدد من السنوات، طبقا لمعدلات النمو العالمية ودراسة الطرق البديلة، ولا يتوقف على الطاقة الاستيعابية للقناة وتفريعاتها
دراسات الجدوى علم سلس، وكل شخص لا بد أن يقوم بعمل دراسة لأي قرار استثماري يقوم به، سواء شراء أسهم أو عمل مشروع بسيط مثل شراء ماكينة خياطة أو عمل مشروع منزلي بأقل الإمكانيات.
عند دراسة مشروع كبير الحجم وبه تفصيلات معقدة وذات أبعاد اجتماعية واقتصادية وبيئية، تتم دراسة المشروع لعدة سنوات. وعلى سبيل المثال، يتم الآن القيام بربط ولاية ميتشيجان الأمريكية بمقاطعة أونتاريو الكندية عن طريق إنشاء جسر، وقد تم عمل دراسات استمرت قرابة الخمس سنوات، وتم تقدير مدة الإنشاءات بست سنوات، وتم عمل تعويضات لأصحاب البيوت بالقيمة السوقية.
ولم يخرج رئيس وزراء كندا أو أي سياسي أمريكي أو حاكم ميتشيجان بأن الجسر سوف يتم إنشاؤه في سنة أو سنتين (التكلفة المتوقعة 4.4 مليار دولار)، ويستطيع أي فرد أو مؤسسة أو شركه نقد وتحليل هذا المشروع وأي مشروع آخر، وكيفية الحصول على مصادر التمويل، والفرص البديلة، وما هي الآثار المترتبة على هذا المشروع.
وحينما ننظر إلى العاصمة الإدارية الجديدة في
مصر، نجد تكلفتها 90 مليار دولار تكلفة كلية، و45 مليار مرحلة أولى، دون الإفصاح عن مصادر التمويل، وتقوم الحكومة بالإنفاق على كل البنية التحتية والمرافق من الموازنة العامة للدولة، وتقوم بالتوقيع على قروض مع مؤسسات دولية وأجنبية بضمان الحكومة المصرية، ويخرج علينا الجنرال بأن العاصمة الإدارية ليست تابعة للموازنة العامة للدولة، مثل مشروع توسعة قناة السويس التي تتحمل الخزينة العامة كل الفوائد، وعليها تسديد أصل القرض لمشروع عديم الجدوى الاقتصادية.
المشكلة تكمن أنه حينما يسيطر طاغية على مقدرات دولة وعلى عملية اتخاذ القرار، فإنه يفعل كل ما في وسعه كي لا يفتضح أمره، وهدفه الأهم هو التضليل والهروب للأمام وعدوه الأول هو الشفافية ودراسات الجدوى. فالشفافية ودراسات الجدوى صنوان لا يفترقان.