كتب

تفكيك الطاعة لفهم العصيان كانتصار على الذات وسبات العالم

كتاب يناقش العلاقة بين العصيان والطاعة لمواجهة السياسات الظالمة ومطالب التغيير (عربي21)

الكتاب: العصيان من التبعية إلى التمرد
المؤلف: فريدريك غرو
الترجمة: جمال شحيِد
الناشر:دار الساقي/2019

في جدال عام حول العصيان المدني ألقى المؤرخ الأمريكي هوارد زين في العام 1970 خطابا جاء فيه: "العصيان المدني ليست مشكلتنا. مشكلتنا هي الطاعة المدنية. وتكمن مشكلتنا في الناس الذين ينصاعون للإملاءات التي يفرضها حكام حكوماتهم ممن أيدوا عددا من الحروب، فقتل ملايين البشر بسبب هذا الانصياع. مشكلتنا هي انصياع الناس عندما يعيث الفقر والمجاعة والحماقة والحرب والتوحش فسادا في العالم. مشكلتنا هي أن يكون الناس مطيعين في حين أن السجون تعج بصغار اللصوص، وفي أن كبار الحرامية يحكمون البلاد. هذه هي مشكلتنا". 

هذا الجزء من الخطاب يستعيده فريدريك غرو ويفتتح به مقدمة كتابه التي جاءت تحت عنوان غاضب: "قبلنا ما لا يُقبل"، حيث تتوالى ملاحظاته وتساؤلاته الاستنكارية حول أوضاع كارثية نعيشها اليوم، تبدأ من استفحال الفقر والتباين في الثروات وما يتبع ذلك من انهيار متسارع للطبقة المتوسطة، ولا تنتهي عند التردي المخيف للبيئة الطبيعية وكل ما يجره ذلك من أثر سيء على نوعية الهواء والتربة والنباتات المحيطة بنا، بينما تتم مقابلة ذلك كله بردود فعل سلبية واستسلام يثيران الحيرة، ويستدعيان البحث في "مسألة العصيان انطلاقا من مسألة الطاعة.. لماذا نطيع، وبخاصة كيف نطيع؟... وإلى أي درجة يمكن أن يكون العصيان انتصارا على الذات وانتصارا على الامتثالية المعممة وسبات العالم... (و) لماذا يسهل جدا أن يتفق الناس على اليأس من النظام الحالي للعالم، ولماذا يصعب عليهم جدا أن يعصوه مع ذلك". 

تكلفة العصيان

يفصّل غرو في معاني الطاعة وتمثلاتها، فهي قد تكون إذعانا، وقد تكون تبعية، وربما تظهر من خلال الامتثالية أو حتى الموافقة. لكن المعنى الأدق والأقسى للطاعة هو بدون شك الإذعان. إنه "طاعة إكراهية خالصة.. نطيع من يحمل في يديه السلاح والسوط، والقدرة على التحكم بالوظيفة.. أن أذعن يعني أنني سجين تتحكم بي علاقة قوة تُخضع وتُرضخ.. أكون تابعا للآخر تماما، فيسيرني ويقرر عني ويصدر أوامره الهادرة.. ما أفعله عندئذ هو أن أنفذ باستسلام.. إنني مذعن". 

لكن غرو يتساءل عن سبب هذه الطاعة عند المذعن، ويرى أنها مرتبطة بشكل أساسي بعلاقات القوة، فالمذعن يرى أمامه تكلفة العصيان ويرى الثورات التي انقلبت على الثوار والانتفاضات الخائبة والدماء التي تسيل فيها، فيستبدل كل ذلك "بحلاوة التسليم بالقدر، أي الإذعان المقبول في استدامته". 

لكن هناك وجه آخر للقبول بالإذعان، هناك ما أسماه غرو بـ "الاستغلال الأخلاقي" أو "المخاتلة الأخلاقية"، فالمذعن "يطيع طاعة عمياء، لا يعلم شيئا عن غاية ما أُمر به ولا عن مآله وهدفه ومعناه.. هو المنفذ وليس صاحب القرار"، هذا يريح ضمير المذعن كما يبدو، لأنه تخلص من مسؤولياته، فهو يصور لنفسه أنه لا يستطيع فعل شيء، هو فقط يطيع وينفذ الأوامر.

الطاعة المفرطة

مستندا على نص" العبودية الطوعية" لإيتيان دو لابويسيه (مؤسس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا)، يحاول غرو شرح الكيفية التي يسلم بها الناس مقادهم إلى شخص واحد، الرئيس المستبد الطاغية، وكيف يتحولون، فوق ذلك، إلى أعوان له في استبداده ومبررين لأحكامه وقوانينه الجائرة. 

يقول غرو: "إنهم يطيعون لأنهم مذعنون بالتحديد، أي مكرهون بسبب القوة وسجناء بسبب الخوف.. (فهذا) الرجل الوحيد تأتمر بأوامره قوات مسلحة وشرطة وعدالة مفصلة لطبقة معينة وموظفو رقابة محترفون ومخبرون ووشاة".

 

تقوم أيديولوجيا الإذعان دائما على إفهامنا أن الوقت قد فات للعصيان"، وينادي بالديمقراطية النقدية متسائلا: "هل اتفقنا على إطاعة القوانين أم إنشاء مجتمع؟


يؤكد هنا غرو أن الاستبداد "بناء إذعان هرمي.. فكل شخص يطيع رئيسه المباشر" لكنه ينبه إلى أننا يجب ألا نغفل عن "السلسلة الأفقية للتواطؤات.. والتعاطف المنفعي". يقول: "يتحمل المرء الترهيب لأنه يشعر بأنه يستمتع بأن يمارس طغيانه على شخص آخر.. الطاغية يستعبد البعض عن طريق البعض الآخر، فكل مقهور ينتقم لقهره بممارسة القهر على شخص آخر، فتسري علاقة الطاعة ـ دون أن تشكل فئتين منفصلتين (الرؤساء/المرؤوسون) ـ في كامل الجسم الاجتماعي، فيتواطأ الجميع ويستمتع كل فرد بتمكنه من ممارسة استبداده على شخص آخر". 

يقول لابويسيه في نصه مخاطبا جمهور (الطائعين): "لا أراكم تطيعون فقط بل تُستعبدون". فاستباق الرغائب، بحسب غرو، والطاعة المميزة، وتحويل الطاعة إلى عربون امتنان، وتبرير الأوامر الصادرة، هذا ما يمكن أن يسمى "الطاعة المفرطة". وهذا الغلو في الطاعة هو ما يسمح للسلطة السياسية بالاستمرار. "أنا لا أريد منكم الإقدام على دفعه أو زحزحته، إنما الكف عن دعمه فقط، ولسوف ترونه مثل تمثال عملاق نزعت قاعدته من تحته، كيف يهوي بتأثير وزنه فيتحطم"، هذا ما يقوله لابويسيه.

الديمقراطية النقدية

يتحدث غرو أيضا عن طاعة امتثالية، طاعة لا تصدر عن ضرورة الالتزام بالأوامر أو القوانين، إنما يحركها بشكل أساسي سلوك الآخرين وآراؤهم، طاعة يحكمها الخوف من أن يجد المرء نفسه "منعزلا ومستبعدا ومرذولا". نفعل كما يفعل الآخرون منذ أمد بعيد، وبمعنى ما يصبح السبب الأول للطاعة والعبودية الإرادية هو الاعتياد، "اعتياد مدعم بالتبعية. إذ أن كل شخص يجعل تصرفه يتطابق مع تصرف جميع الآخرين"، حتى وإن كان الاختلاف معهم اختياريا لا يرتب على الشخص أية عقوبة. أما ما أسماه طاعة الموافقة فهي تلك المحكومة بميثاق العقد الاجتماعي وقواعد الديمقراطية، إنها الطاعة السياسية التي تجعل من "العصيان أمرا مستحيلا وغير قانوني". 

يقول غرو: "تقوم أيديولوجيا الإذعان دائما على إفهامنا أن الوقت قد فات للعصيان"، وينادي بالديمقراطية النقدية متسائلا: "هل اتفقنا على إطاعة القوانين أم إنشاء مجتمع؟". 

ويضيف: "إن سماع كلمة المسؤولين المعينين يكون باحتراز ومؤقتا على الدوام"، صحيح أن المواطن قد أعطى تفويضه بالاقتراع والانتخابات الحرة "لكنه يستطيع دائما أن يستعيد سيطرته على الأمور". ليست الأولوية إطاعة القوانين إنما صيانة مبادئها والحفاظ عليها، وإلا تحولت الديمقراطية إلى منظومة جامدة لتوزيع السلطات، بحسب غرو. لذلك فإن العصيان المدني هو ما يجعل "قلب العقد الاجتماعي يخفق، ويحيي مشروع إنشاء مجتمع، متجاوزا المؤسسات التي تسعى حثيثا بخاصة إلى تخليد نفسها وتأييد الرفاه لنخبة معينة.. أي أن يعيش الناس معا على أسس جديدة.. وألا يقبلوا اللامقبول". 

 

"الطاعة السياسية النابعة من المواطنة هي طاعة طوعية. هي حصيفة ومعللة وقائمة على الشعور بالمسؤولية. إنني ألزم نفسي بحرية. أنصاع لأوامر شخص آخر ولكن انطلاقا من قرار شخصي.. إنني أطيع بكامل إرادتي.


هنا يستدعي غرو مواقف ومقولات المؤرخ والفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو، الداعي الأبرز للعصيان المدني كوسيلة لانتزاع الحقوق وعدم الرضوخ للقوانين المجحفة، حيث يرى ثورو أن "لا جدوى من زيادة الخطابات النقدية والاحتجاجات النظرية، إلا للطاعة السلبية في النهاية والتصديق على كل شيء.. ما الفائدة من مضاعفة التصريحات النارية إذا كنا سنتصرف في نهاية المطاف كروبوتات، وننصاع سلبيا للقوانين ونفعل كما يفعل جميع الآخرين؟ لا يوجد نقد أصيل إلا وله ارتباط بالعصيان العملي. وفي حين يصرح كانط قائلا: العصيان الحقيقي هو النقد (النظري) يجيب ثورو: إن النقد الحقيقي هو العصيان (العملي)." وحين يقال "ولكننا في نظام ديمقراطي، فكيف نبني عيشا مشتركا متسقا ومنظما إن تركنا كل فرد يبت في شرعية القوانين المعتمدة بعد التصويت عليها بموجب إجراءات منتظمة أي بأكثرية الممثلين؟" يرد ثورو على ذلك قائلا: "إن الأكثرية اللازمة هي وحدها الصدق الأخلاقي التي لا قيمة للأكثريات العددية والقانونية أمامها... ما يجب أن يُنقذ قبل غيره هو الضمير وليس العالم".

الأنا التي لا تفوض

يلفت غرو إلى أن قول الشخص أنه ليس مسؤولا لأنه كان يطيع القوانين والأوامر ليس إلا مراوغة وهروبا من العواقب، ذلك أن "الطاعة السياسية النابعة من المواطنة هي طاعة طوعية. هي حصيفة ومعللة وقائمة على الشعور بالمسؤولية. إنني ألزم نفسي بحرية. أنصاع لأوامر شخص آخر ولكن انطلاقا من قرار شخصي.. إنني أطيع بكامل إرادتي. وتدل الطاعة على تفعيل الإرادة لا على استقالتها". 

إن "الفكر التمحيصي" و"المحاكمات العقلية" و"العمل النقدي" و"حوار الذات مع الذات" كل ذلك يجعل من الطاعة أمرا صعبا ومن العصيان أمرا ممكنا وضروريا." العصيان كما يراه غرو يبدأ من الذات.. من "الأنا التي لا تفوض"، "يصبح رفض الانقياد الجماعي حركة تاريخية حقيقية.. عندما يحدث اهتزاز جماعي "لذوات" لا تفوض، لأن الوضع قد تردى لدرجة أن كل فرد يشعر بضرورة الرد الملحة وبواجب التوقف عن الطاعة... وعندما يكتشف كل فرد أنه لا يعوض في خدمته البشرية برمتها، وعندما يقدم كل فرد على التجربة القائلة باستحالة تفويض الآخرين بالحرص على العالم". إنه الإحساس بالمسؤولية، لكنه إحساس "قاهر" يحفز "استراتيجيات مداورة" تستدعي "تجربة الطاعة ، بل على الأعم تجربة الاستعانة بالآخرين". 

يقول غرو: "إننا حينها سنبحث عن انهزام مرتب". ويوضح:" يأمرني أحدهم أن أنفذ فعلا أستنكره، وأن أعمل في برنامج أمقته، فأقول لنفسي إن رفضا من طرفي سيكون بلا جدوى ... على كل حال سيفعل ذلك شخص آخر مكاني. إذن ما الفرق؟ سترتكب المجزرة، وسيعدم البريء. إن الحقارة، إن تصديت لها، سينجزها شخص آخر. لا فرق إذن، (إنها) استراتيجية الضمير المرتاح". 

يتابع غرو: "لا يوجد أي فرق في واقع الحال. ما عدا أنني الفاعل.. المراهنة على الأخلاق والسياسة البشريتين هما اللذان يخلقان الاختلاف كله: بروز الأنا التي لا تفوض. هذه الأنا هي التي تعصي".