لم يأت
السيسي بجديد، عندما قام بالعزف على لحن الزهد في المنصب، فقد فعل هذا من قبل، وأكثر من مرة، وإذا كانت تنويعاته مختلفة في كل مرة، فإن اللحن واحد!
من قبل كان يقول للمصريين إنهم من جاءوا به، وأن عليهم أن يتحملوا، وأنهم وقد جاءوا به فليس عليهم أن يقوموا بتعذيبه. ولا تسأل عن السياق، فالمذكور عندما تسيطر عليه فكرة، لا يجيد اختراع السياق المناسب لها، وإنما يقولها، فتكون منبتّة الصلة بما قبلها وما بعدها، وبالمناسبة أيضاً.
وعندما قال إنه لم يكن "ينتوي الترشح" للرئاسة، كان هذا في خطابه بمناسبة المولد النبوي الشريف، عندما أنهى الكلمة المكتوبة وارتجل، لكنه كان كمن جاء يكحلها فأعماها، بقوله إنه عرض على المستشار
عدلي منصور الترشح، لكنه رفض، وعليه فقط فلم يكن هناك من سبيل، إلا أن يضحي بنفسه ويقدم على هذا الأمر، وهو يقول لو اعتقد الناس أنه خرج من أجل المنصب فقد أساءوا إلى الفكرة، يقصد فكرة التضحية!
على مسرح الانقلاب:
فهو ظن أنه بما قال أخرج نفسه من فكرة من أقدم على الانقلاب بهدف الحكم، لكن المشكلة أنه اختزل الدولة المصرية في شخصه، وشخص المستشار عدلي منصور، الذي لم يقم بأي فتوحات، وكان مجرد مؤدي معدوم القدرات على مسرح الانقلاب، وقد دخل التاريخ بظهره بهذا الدور الجريمة!
وإذا كان عدلي منصور رفض الترشح، فلم يجد السيسي بديلاً من أن يقدم على هذه الخطوة، مضحياً بنفسه من أجل مصر. فهل يليق بمصر أن تختزل بهذا الشكل؟! وكل المرشحين الرئاسيين السابقين، ما عدا الرئيس محمد مرسي، كانوا بدرجة أو بأخرى مع الانقلاب العسكري، وهم أصحاب تجربة يفتقدها السيسي وعدلي منصور، باعتبارهما بدون خبرة سياسية، ومحظور عليهم بحكم الوظيفة السابقة العمل بالسياسة، فمن أصلح للمنصب؟!
هذا فضلاً عن أن السيسي اعترف بما يقوم دائماً بإنكاره بأنه بالانقلاب العسكري صار هو الحاكم الحقيقي، الذي يصطفي من يحكم مصر ويختار، فإن لم يكن عدلي منصور، فهو لا مندوحة من أن يضحي هو ويترشح لشغل الذي الموقع الشاغر!
وهناك من أرادوا إثبات أن السيسي يكذب، فاستدعوا مادة في الدستور تحظر على رئيس الجمهورية المؤقت الترشح، وهي مادة (من وجهة نظري) لا تسري على المستشار عدلي منصور؛ لأن تنصيبه نائب مؤقت سابقا على وضع الدستور، ولا تنطبق عليه، فالتطبيق بأثر رجعي يسقط رئاسته المؤقتة. ثم إن المادة تتحدث عن إجراءات يقوم بها البرلمان ولم يكن قد تشكل، وأن الرئيس المؤقت يأتي في حال خلو مقعد الرئيس بشكل دستوري، والمعنى أنه كان يجوز لعدلي منصور أن يترشح!
وبعيداً عن الجدل القانوني، فالحقيقة أن السيسي عرض على عدلي منصور الترشح فعلاً؛ لأنه لم يكن يأمن على نفسه إلا في وجوده، وأنه في ظل هذا الوجود فقد كان وزير الدفاع هو الحاكم الحقيقي للبلد، وليس مؤكداً أن يحدث هذا في ظل أي شخص آخر، وطبيعة شخصية المستشار منصور تمكنه من أن يستمر في دور خيال المآتة!
هناك عوامل كثيرة تضافرت، لتدفع بالسيسي للإقدام على الانقلاب العسكري، منها عوامل داخلية، وإقليمية، شخصية وعامة. والإقليم عندما خطط، كان خياره لتولي
الرئاسة (لا سيما المملكة العربية السعودية) الفريق سامي عنان، لكن السيسي وبالاتفاق مع كفيله العام المشير محمد حسين طنطاوي، خانه وخرج على الاتفاق، ساعده على هذا أنه تحول إلى المرشد الأول للانقلاب، الذي لم يكن متأكداً تماماً من نجاحه، لذا فقد كان يضع رجلا هنا ورجلا هناك، وكانت رسالته للإخوان أنه مضغوط عليه من المجلس العسكري، ومن الجيش بشكل عام! في حين أنه من كان يخطط، ويدير وينفذ، ويتآمر ويطمئن، ويحمي نفسه قدر الإمكان في حال فشل الانقلاب، الذي لم يكن ضالعا فيه بالمعنى المعروف للضلوع سوى أربعة من أعضاء المجلس العسكري، يعملون تحت إمرته شخصياً!
دور السيسي:
لقد كان يعمل على إفشال المفاوضات التي قامت بها أشتون، وكان من يحرض محمد البرادعي على التجاوب مع رسائله في الإفشال. وقد تورط، وعندما ذهبت السكرة وحلت الفكرة، لم يجد البرادعي نفسه أكثر من عدلي منصور!
وقد حسم الملك السعودي حالة التردد هذه، بحرق الطريق أمام السيسي نفسه، والدفع به إلى سكة اللاعودة، إذ حرضه على مذبحة رابعة، وإنهاء الاعتصام بالشكل الذي حدث، هنا تقطعت السبل بوزير الدفاع، فكان يريد رئيسا لحمايته، من العزل، ومن المحاكمة على هذه الجرائم، فكان عدلي منصور هو الخيار الأمثل، فهو متورط معه في الجرائم، سواء جريمة الانقلاب، أو المذابح، فضلا عن السمات الشخصية للمستشار منصور، التي تجعله يقبل الدنية في أمره!
ولهذا، فقد جاء النص الذي يحصن منصب وزير الدفاع في الدستور، لتحصين وجوده، وعندما رفض عدلي منصور عرض الترشح، كانت السعودية لا تزال متمسكة بسامي عنان، وأعلنت الإمارات إنها بحاجة إلى وجود السيسي وزيرا للدفاع وقائداً للجيش المصري، ليحمي العالم العربي كله!
وتردد السيسي طويلاً، وفي النهاية حسم أمره وقام بالترشح للانتخابات الرئاسية، ليحمي نفسه بنفسه، وحتى لا يكون ريشة في مهب الريح، إذا تولى المنصب غيره، وهو لا يأمن على ذاته مع الفريق سامي عنان، الذي لم يكن يحمل له أي تقدير!
وعندما يشعر السيسي بأنه مأزوم أو قلق فإنه يعزف هذا اللحن الحزين، ولم يعد بإمكانه الآن أن يعزفه على نغمة ان المصريين جاءوا به وعليهم أن يتحملوا فاتورة الإصلاحات الاقتصادية؛ لأنها نغمة أفسدتها فيديوهات محمد علي، فقد اكتشف المصريون أن مصر ليست فقيرة، ولكن هناك خلل في سلم الأولويات وأنه مطلوب منهم الجوع، مقابل أن يبني السيسي سلسلة من القصور له!
ومن هنا تم العزف على نغمة عرضت المنصب على عدلي منصور، فلما رفض ألقيت بنفسي في اليم، فاته أن المصريين يمكن لهم أن يرفضوهما معاً وفي نفس واحد، فمصر الودود الولود لا يمكن أن تختزل في السيسي وعدلي!
وكما جاء في مسرحية "سك على بناتك"، بلاها سوسو بلاها نادية!