مع اقتراب موعد رئاسيات 12 ديسمبر 2019، تسارِعُ فرنسا الخطى لإنقاذ أيتامها في الجزائر من خطر فقدان تأثيرهم التقليدي في الحكم والعودة إلى حجمهم الطبيعي، ما يعني بالنتيجة فقدان نفوذها في الجزائر.
في البداية كان خروج بوتفليقة من الحكم صدمة مدوّية لفرنسا، وهو الذي طالما خدمها وحرص على ديمومة مصالحها ونشر لغتها في الجزائر أكثر من أيّ رئيس آخر، وقد سكتت له عن العهدتين الرابعة والخامسة برغم مرضه الذي أقعده، لأن حاشيته المفرنسة واصلت خدمة فرنسا ونفوذها في البلاد، ونتذكر فقط ما قدّمته بن غبريط على رأس وزارة التربية من خدمات جليلة للّغة الفرنسية على حساب الإنجليزية والعربية معاً، لذلك كانت استقالة بوتفليقة خسارة مدوّية لفرنسا، لاسيما وانها جاءت بعد أن خرج ضباطُ فرنسا كلهم من الحكم، وهم الذين كانوا يشكّلون رأس الحربة في “دفعة لاكوست” التي خدمت الفرنسية بتفانٍ وحققت لها في الجزائر المستقلة في نصف قرنٍ فقط أكثر ممّا حقّقته فرنسا الاستعمارية نفسها طيلة قرن وثلث قرن من الاحتلال.
وإزاء بداية الاتجاه إلى اعتماد الانجليزية تدريجيا لغة أجنبية أولى في جميع مراحل التعليم، شعرت فرنسا أن انتهاء هيمنتها الثقافية على الجزائر باتت مسألة سنوات قليلة، لاسيّما إذا نجحت الانتخابات الرئاسية وظهر رئيسٌ جديد من خارج دائرة الأقلية الفرنكفونية.
لذلك كله، بدأت فرنسا تفقد صبرها و”حيادها” الذي طالما تظاهرت به طيلة 7 أشهر من الحَراك، وبدأ بعض نوابها يدلون بتصريحات ينتقدون فيها الأوضاع في الجزائر ويطالبون السلطة بإلغاء رئاسيات 12 ديسمبر والذهاب إلى مرحلة انتقالية ومجلس تأسيسي، وهو الطرح نفسه الذي تقدّمه أحزاب “البديل الديمقراطي” ذات التوجّه العلماني الفرانكفوني، المعروفة لدى الخاصّ والعامّ، وقد رأينا كيف استقبل حزبان ينتميان إلى هذا التيار “نائبة” فرنسية ببجاية للمشاركة في مظاهرات الطلبة الثلاثاء الماضي وإطلاق تصريحاتٍ تؤيّد فيها طرحَ الأقلية الفرانكو علمانية بالبلاد المتعلق بضرورة إلغاء الانتخابات، علما أن مختلف الصحف الفرنسية ترفع الطلب نفسه منذ أشهر وتهاجم القيادة الجديدة للبلاد، لأنها تقف حائلا دون تمكّن الأقلية الفرانكفونية من الحكم بلا انتخابات والحفاظ على هيمنة فرنسا على الجزائر.
فرنسا تركب موجة الحَراك الشعبي بالجزائر للحفاظ على مصالحها المهدَّدة، هذا أمرٌ منتظر ومفهوم، فليس هناك دولة كبرى في العالم تقبل بسهولة أن تفقد نفوذها ومناطق هيمنتها في العالم، وهي تسعى بشتى الوسائل للحفاظ عليها، اللوم لا يقع عليها، بل على أيتامها الفرانكوش الذين شعروا أنّ الملايين من الجزائريين لم يعودوا يشاطرونهم رأيهم في كيفية حلّ الأزمة وربما باتوا يفضّلون حلّها بالانتخابات مباشرة، فلم يجدوا بدّا من الاستنجاد بفرنسا و”استضافة” بعض “نائباتها” في الجزائر للمشاركة في الحَراك وتحريض الأوروبيين على الجزائر.. أليست هذه إساءةً بليغة للحَراك واستقواءً مرذولا بالخارج؟
إذا كان هناك طرفٌ يقرّر بشأن الانتخابات القادمة فهو الشعبُ الجزائري وحده، هو سيّدُ نفسه وله أن يقرّر بشأنها ما يشاء.. هو صاحبُ القرار الأول والأخير، وهو الذي يعرف كيف يتعامل مع نظام حكمه إلى أن يحدث التغيير الذي ينشده منذ 22 فبراير، سواء حدث اليوم أو بعد سنة أو سنوات.. المهمّ أن الشعب هو الذي يقرّر وليس فرنسا أو غيرها من الدول، وكل من يعتقد أنّ فرنسا ستُسعفه وتوصله إلى الحكم بلا انتخابات كما يتمنى حتى يعيد النظر في أسس الدولة الجزائرية وقوانينها وهويتها، فهو واهمٌ، ولن يجني سوى الريح، لقد انتهى عهدُ تدخّل فرنسا في صناعة الرؤساء بالجزائر منذ أن ذهب ضباطُها إلى مزبلة التاريخ غير مأسوفٍ عليهم، والجزائر لن تعود أبدا إلى ما قبل 22 فبراير.
(الشروق الجزائرية)