عندما اشتدّ لهيبُ الثورة الجزائرية ضدّ الاستعمار، استنجد الفرنسيون بالجنرال شارل دوغول سنة 1958، فلجأ إلى عدّة أساليب لإخماد الثورة، ومنها –بالموازاة مع التصعيد العسكري- وضع خطة اقتصادية شاملة مدّتها خمس سنوات سمّاها “مشروع قسنطينة”، ورصد لها مبلغ ألفيْ مليار فرنك فرنسي قديم..
وهي قائمة على بناء معامل توظّف 1.5 مليون جزائري، فضلا عن توظيفهم في الإدارة والجيش والتعليم، وتوزيع 250 ألف هكتار من الأراضي الزراعية عليهم، وبناء 200 ألف مسكن، وتشييد المدارس والمشافي وشقّ الطرق وغيرها من المنشآت لتحسين الوضع المعيشي للجزائريين… وكان واضحا أن هدف “مشروع قسنطينة” هو فكّ ارتباط الجزائريين بالثورة والتفافهم حولها، لكنّ الحيلة لم تنطلِ عليهم واستمرّوا في دعمها وتقديم التّضحيات إلى أن نجحوا في دحر الاستعمار وطرده من البلاد إلى غير رجعة.
وما تحضِّر له دولُ
التطبيع هذه الأيام رفقة الولايات المتحدة والاحتلال، لا يختلف في جوهره عن “مشروع قسنطينة” الاستعماري الدوغولي؛ إذ ذكر موقع “أكسيوس” الأمريكي أن هذه الدول التي اجتمعت مؤخرا في الإمارات للتحضير لـ”
منتدى النقب 2″ المنتظَر عقده بالمغرب في مارس المقبل، قد تبنّت وثيقة عملٍ تنصّ على “تنفيذ مبادراتٍ من شأنها تعزيز الاقتصاد
الفلسطيني وتحسين نوعية حياة الفلسطينيين”.
قبل سنوات قليلة، طرح نتنياهو، بصفته رئيس وزراء حكومةٍ سابقة للاحتلال، فكرة “السلام الاقتصادي”، ومفادها أنّ المشكلة في فلسطين اقتصادية وليست سياسية، ويكفي تحسين الوضع المعيشي للفلسطينيين من خلال إنجاز مشاريع استثمارية كبيرة في الضفة وغزة، وكذا توظيف المزيد من الفلسطينيين في “إسرائيل”، أي في أراضي 1948، كبديل للدولة الفلسطينية المستقلة. واستطاع نتنياهو إقناع صديقه ترامب بالفكرة، وبأنّها أقربُ طريق لتطبيق “صفقة القرن”، فجمع لها ترامب أعرابَ الهرولة في منتدى مشبوه عُقد بالبحرين في جوان 2019، وهناك تحدّث الأمريكيون عن ضرورة حشد 50 مليار دولار، تُوزَّع بين 35 مليارا تجمعها دولُ الخليج، و15 مليارا تتكفل بها الولايات المتحدة والاتحادُ الأوروبي، وهذا للقيام بمشاريع اقتصادية كبيرة في الأردن ولبنان ومصر لتوطين اللاجئين الفلسطينيين فيها نهائيا، ومن ثمة غلق ملفّ حقّ العودة، فضلا عن القيام بمشاريع أخرى في الضفة وغزة لتحسين الوضع الاقتصادي للفلسطينيين مقابل إلقائهم السلاح والتعايش مع الاحتلال.
وبسقوط ترامب، ثم نتنياهو، سقطت “صفقة القرن” ومشروع “السلام الاقتصادي”، لكنّ ها هو يعود اليوم مع عودة نتنياهو على رأس حكومةٍ يمينية فاشية متطرّفة استهلّت عهدتَها بقتل 14 فلسطينيًّا في ظرف 17 يوما فقط من العام الجديد، من دون أن يُحرّك ذلك شعرةً واحدة في رؤوس المهرولين الذين أصبح همّهم الأساسي هو كيفية تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع وفق ما يشتهيه الاحتلال، من خلال حديثهم عن “تنفيذ مبادرات لتعزيز الاقتصاد الفلسطيني وتحسين نوعية حياة الفلسطينيين”، وكأنّ المسألة تتعلّق بلقمة العيش فحسب وليس باحتلال استيطانيٍّ عنصريٍّ وحشيٍّ، يرتكب أبشع الجرائم يوميا بحقّ الفلسطينيين، ويريد ابتلاع وطنهم كلّه وتهويده وطردهم منه.
ومثلما رفض الفلسطينيون جميعا “صفقة القرن” المشبوهة وتصدّوا لها جميعا وبقوّة منذ طرحها في منتصف 2019، وأفشلوها مبكرا، فسيرفضون ما يطرحه “منتدى النقب 2” أو “مشروع قسنطينة 2” من رشاوى خسيسة لشراء ذممهم، ودفعِهم إلى بيع قضيّتهم ووطنهم. هذا المشروعُ التآمريُّ والمتصَهْين سيلقى بالتأكيد مصير “مشروع قسنطينة 1” قبل 60 سنة؛ إذ لم يمنع الجزائريين من طرد الاستعمار، فخرج من بلدهم بخُفَّيْ حنين، وذلك ما سيحدث في فلسطين.
(الشروق الجزائرية)