قضايا وآراء

كيف ستستثمر النواة الصلبة للحكم رحيل الرئيس التونسي السابق؟

1300x600
بصرف النظر عن منطق الصدفة أو القدر الذي جعل رحيل رئيس الدولة التونسية السابق يتزامن مع عيد الجمهورية، من المؤكد أن لذلك التزامن دلالات وتداعيات لن تنفصل عن الحملات الانتخابية المبكرة للاستحقاقَين الرئاسي والتشريعي القادمَين.

فمن المعلوم أن السرديات السياسية المهيمنة على منظومة الحكم وهوامشها الوظيفية (حتى تلك التي تعرف أنفسها بالانتماء للمعارضة منذ عهد المخلوع) تستثمر كثيرا في الأموات، سواء أكانوا أولئك الأموات من الرموز السياسية (كالزعيم بورقيبة والفقيدين شكري بالعيد والحاج محمد براهمي)، أم كانوا من ضحايا الإرهاب من الأمنيين أو من المدنيين بعد الثورة التونسية. وقد كان خراج هذا الاستثمار في الأموات كافيا لإحياء البورقيبية؛ وجعلها "الخطاب الكبير" الذي تستمد سائر الخطابات مشروعيتها من درجة الاقتراب منه أو الابتعاد عنه، كما ساهم باقي الأموات في منع تمرير قانون تحصين الثورة والعزل السياسي للمنتسبين للتجمع الدستوري المنحل، وساهم أيضا في إسقاط حكومة الترويكا وإرجاع التجمعيين وحلفائهم في اليسار الثقافي إلى واجهة السلطة بعد انتخابات 2014.

ونظرا إلى عقم الخيال السياسي لأغلب النخب "الحداثية" الدائرة في فلك منظومة الحكم، وانطلاقا من وعيها الانتهازي، فإنها لم تكن لتترك رحيل الرئيس التونسي السابق يمر دون محاولة استثماره على أكثر من واجهة، قد يكون أهمها المحاور التالية:

1- تحقيق مكاسب سياسية فشل الرئيس الراحل نفسه في تحقيقها، خاصةً مشروع المساواة في الميراث بين الجنسين (وهو من إملاءات الاتحاد الأوروبي واشتراطاته "الثقافية" قبل أن يكون مطلبا اجتماعيا "عفويا"). كما أن محاولة إحياء الجدل العمومي في قضية الميراث ستعيد القضايا الهووية إلى واجهة الصراع السياسي، وهو ما يضمن (أولا) حرف الصراع عن مداراته الاقتصادية والاجتماعية، ويضمن (ثانيا) استهداف حركة النهضة والحشد الانتخابي على أساس التناقض بين "مشروعين مجتمعيين"، أي التناقض بين مشروع "القوى الحداثية" وبين مشروع حركة النهضة الإسلامية، رغم ما أثبتته الأحداث ومشاريع القوانين من أن هذا التناقض هو تناقض ثانوي، ولا قيمة له أمام "التوافقات" والتقاطعات بين حركة النهضة وممثلي النواة الصلبة لمنظومة الحكم في تونس منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.

2- تكريس صورة الزعيم ومنع التحول من منطق الاستعارة الرّعوية (التي يعكسها الإصرار على منطق "وصية سي الباجي" أو الوفاء لروحه ولعائلته السياسية أو حتى البيولوجية) إلى منطق المواطنة وحكم المؤسسات. فرغم أن رحيل الرئيس التونسي (باعتباره "البورقيبي الأخير") كان مناسبة للانتقال بمنصب الرئاسة من منطق "الزعيم" إلى منطق"المواطن الأول"، فإنه مثّل لمنظومة الحكم مناسبة لصناعة "صنم جديد"؛ صنم يراد للحياة السياسية أن تتمحور حول وصاياه المزعومة ومآثره التي لا تتجاوز قيمة أغلبها البعد التأثيري للخطابات "التأبينية".

3- صناعة زعيم جديد يكون بالضرورة من النواة الصلبة لمنظومة الحكم (أي من بلدية العاصمة أو من جهة الساحل). وقد ابتدأت بالفعل عمليات المناشدة وصناعة السير الذاتية "المؤسطَرة" لشخصية منتمية لهذه المنظومة، وذلك التوازي مع محاولات لضرب الشخصيات المعارضة والتشكيك في قدرتها على الوصول إلى قصر قرطاج، أو تمتعها بالصفات القيادية التي تخوّل لها أن تتولى منصب الرئاسة.

ورغم محدودية الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية في نظام الحكم بتونس، فإن رمزية هذا المنصب وتعوّد التونسيين لعقود على النظام الرئاسي وعلى منطق "شخصنة "السلطة ومركزتها، بالإضافة إلى الشرعية الشعبية التي يمدّه بها الانتخاب المباشر.. كل ذلك يجعل من الرهان الرئاسي رهانا مركزيا في استراتيجيات كل الفاعلين الجماعيين. وبحكم موازين القوى الحالية (تشرذم القوى المعارضة وغلبة الصراع الأيديولوجي والقضايا الهووية)، من المرجح أن تنجح المنظومة القديمة في الدفع بمرشحها إلى سدّة الرئاسة ، أي من المرجح أن ينجح المركّب الجهوي- المالي- الأمني المهيمن على الدولة العميقة في حماية مصالحه المادية والرمزية، وأن يعيد إنتاج منظومة حكم لن تخرج عن منطق المخلوع ومن جاء بعده، مهما كانت ادعاءاتها.

ختاما، قد يعترض علينا معترضٌ بأن الحديث عن نجاح استراتجيات المنظومة الحاكمة في استثمار رحيل الرئيس السابق باعتباره "حتمية تاريخية"؛ يفترض منطقيا أن تلك الاستراتيجيات تتحرك في فراغ، أي لا تواجه باستراتيجيات مضادة قد تجعل من القول بالحتميات أمرا مباينا للواقع. ولكنّ هذا الاعتراض (على وجاهته) يذهل عن القوانين الحقيقية التي تحكم الحقل السياسي التونسي. فرغم أن الدستور التونسي ينصّ على أن بلادنا "دولة مستقلة ذات سيادة"، فإن واقع الأمور منذ الاستقلال ينبئنا بأننا لسنا دولة مستقلة ولا نملك مقوّمات السيادة. وهو ما يعني أن ترتيبات الوصول إلى السلطة (أو نقلها) تخضع إلى إرادات إقليمية ودولية؛ تحدد هامش "حرية" كل طرف وسقف طموحاته. كما أن البنية الجهوية للسلطة في تونس (وخضوعها لما يُسمى بـ"الدولة العميقة"، أي للوبيات جهوية ومالية معروفة) هو واقع موضوعي لا يمكن تغييره بالممارسة الديمقراطية إلا بمنطق التراكم وعلى المدى البعيد.

ولا يبدو أن تشرذم القوى المعارضة، وغلبة منطق الزعامات والصراعات الأيديولوجية؛ سيساعد على تكسير تلك المنظومة السلطوية في المدى المنظور، بل يبدو أن واقع المعارضة هو أكبر حليف موضوعي للسلطة كي تنجح في استراتيجياتها الهادفة إلى ضرب الاستحقاق الأهم من استحقاقات الثورة، أي إعادة توزيع أكثر عدلا للسلطة وللثروات المادية والرمزية، بعيدا عن منطق الزعاماتية والجهويات والشبكات الزبونية.