رأى الدكتور النور حمد، أن نظام الحكم في السودان قد وصل إلى الدرجة القصوى من التخبط، ومن انعدام الرؤية، ومن فقدان القدرة على السير بشجاعة في وجهة الإصلاح السياسي، الذي يتوقعه السودانيون، وقال: "إن الأيام المقبلة التي تلي تطبيق حالة الطوارئ ستلقي الضوء على الوجهة التي ستسير فيها الأمور".
واعتبر النور حمد في الجزء الثاني من حديثه لـ "عربي21"، أن الحراك الثوري الذي شمل الريف في السودان بأنه تحول غير مسبوق في تاريخ الثورات في السودان، لكنه أشار إلى أن العاصمة الخرطوم ما تزال هي صاحبة الثقل، معتبرا أن البلاد بالفعل دخلت مرحلة الثورة الشاملة من أوسع الأبواب، غير أن المسارسيكون طويلا، وشائكا.
تاليا الجزء الثاني من الحوار:
س ـ الريف منخرط بفاعلية غير مسبوقة في الحراك الحالي الآن، كيف تنظر لمحركات هذا التفاعل، ومآلاته؟
ـ نعم، بدأ الحراك الحالي من الريف. وقد بدأ، أول ما بدأ، بمدينة الدمازين، فلحقت بها القضارف، وعطبرة، وكريمة، وبورتسودان، وود مدني، وغيرها من المدن. وانتشر الحراك بعد ذلك، في المدن الصغيرة والقرى. لكن، بمرور الأيام، الخرطوم أصبحت هي صاحبة الثقل فيه، وهذا طبيعي. ولم نعد نسمع، هذه الأيام، أخبارًا لحراك لافتٍ في المدن الإقليمية، والأرياف. لكن، كما سبق أن قلت، لا يزال هذا الحراك جزئيًا، ويكاد ينحصر في فئتي الشباب والطلاب. فالشارع العريض لم يتحرك بعد. وعموما ربما يكون من السابق لأوانه التنبؤ الدقيق بمسارات هذا الحراك ومآلاته. فهناك عوامل كثيرة، غير مرئية بوضوح كافٍ، في اللحظة الراهنة. وربما تدخل هذه العوامل، في الصورة، في مقبل الأيام، وتصبح فاعلة في تقرير مآلات الحراك، وكذلك، مآلات نظام الحكم القائم. لكننا، بلا شك، دخلنا مرحلة الثورة الشاملة من أوسع الأبواب، غير أن المسار، وفق رؤيتي، سيكون طويلا، وشائكا.
ستظل الأزمة الاقتصادية، على سبيل المثال، قائمة. وستنعكس، هذه الأزمة، على توفر السلع الضرورية، من دقيق، ووقود، وغيرها، وعلى أسعارها، أيضا. كما أن أزمة الأوراق النقدية، ستظل تراوح مكانها، نتيجة لفقدان الثقة في البنوك. وفقدان الثقة في البنوك، هي لدى التحليل النهائي، انعدام للثقة في الحكومة.
يحتاج الشباب أن يفكروا بجدية في تغيير الأوزان الانتخابية، في الخريطة السياسية السودانية
إقرأ أيضا: واشنطن بوست: هل سيندلع ربيع عربي جديد؟
ولقد كان من الممكن البناء على هذه التنازلات، من جانب السلطة، بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ورفع القيود الثقيلة عن العمل الصحفي، وإفساح الحريات العامة، وتقديم ما يشير إلى وجود ضوء نهاية النفق. لكن ذلك لم يحدث. بل جاء فرض حالة الطوارئ، ومحاكم الطوارئ، ليفسد كل تلك الإشارات، ويعيد الأمور إلى مربع الاحتقان، من جديد، وبصورة أسوأ من سابقتها. ويبدو أن نظام الحكم قد وصل إلى الدرجة القصوى من التخبط، ومن انعدام الرؤية، ومن فقدان القدرة على السير بشجاعة في وجهة الاصلاح السياسي، الذي يتوقعه السودانيون. ولسوف تلقي الأيام المقبلة التي تلي تطبيق حالة الطوارئ الضوء على الوجهة التي ستسير فيها الأمور.
س ـ تظل واحدة من مشغوليات هذا الحراك، كيفية التعبير عنه في المستقبل، هل يحتاج الشباب الثائر إلى تنظيم سياسي كالأحزاب، أم هنالك آليات حديثة يمكن استنباطها لممارسة العمل السياسي؟
ـ لكي تحدث نقلة حقيقية من حالة العجز التي وسمت العقود الست ونيف، الماضية، التي هي عمر الاستقلال، يحتاج الشباب أن يفكروا بجدية في تغيير الأوزان الانتخابية، في الخريطة السياسية السودانية. وهذا يحتاج إلى إنشاء تنظيم. ففي تقديري الشخصي، لا فرق يذكر، بين المؤتمر الوطني، والمؤتمر الشعبي، من جهة، وبين حزب الأمة، والحزب الاتحادي الديمقراطي، من الجهة الأخرى. هذه القوى متشابهة، وهي، في نظري، قوى معلولةٌ بنيويًا، ولا تملك مداخل إلى المستقبل. فهي قوى مستنفدة الطاقة؛ وأعني بذلك الطاقة الخلاقة التي تتفاعل بكفاءة مع متطلبات اللحظة الكوكبية الحاضرة، وحالة اليقظة التي تمثلها هذه الهبة الشبابية. لقد مارست هذه القوى العمل السياسي لما يزيد عن الستين عاما، ومارست الحكم لفتراتٍ قصيرة. لكن هذه الفترات القصيرة حفلت بالكثير من الشواهد على عللها البنيوية.
إقرأ أيضا: حالة الطوارئ وسراب المقاربة السياسية
أما اليسار العريض، من شيوعيين وعروبيين، وقطاع من الليبراليين ذوي المزاج اليساري، وغيرهم، فإنهم لا يختلفون في فهمهم للتحولات، والتحديات الجديدة، وأساليب النهضة، عن تلك الكتلة المحافظة، التي يمثلها الإسلاميون وحزب الأمة، والاتحادي الديمقراطي، وغيرهم من الأحزاب والمجموعات الصغيرة، ذات الطبيعة المحافظة. فكتلة اليسار العريض لا تزال سجينة في قمقم مفاهيم منتصف القرن الماضي. وهي أيضًا سجينة في تواريخها الحزبية، وسردياتها النضالية، المتوارثة، ولم تنفتح بعد على مفاهيم السياسة في أفقها الجديد، بوصفها تخطيطا، وإدارة، وعلما، وتعليما حديثًا، وتدريبا لا ينقطع، وتقنية، ومرونة في المفاهيم.
على الرغم من محاسن الميديا الحديثة، إلا أن هذه المنصات لا تزال مفعمة باللاموضوعية، وبضيق الصدر، وقصر النفس، وانعدام الحس الديمقراطي
ـ وردت الإجابة على هذا السؤال، ضمن الاجابات السابقة. لكن لا ضير من إلقاء مزيد من الضوء عليه، خاصة ما ينبغي أن تفعله النخب المثقفة والمتعلمة. وأول ما يمكن أن يقال في هذا الصدد، أننا لم يتفق لنا، كنخب متعلمة، وكمثقفين، وقادة رأي، وسياسيين، أن تحاورنا بصورة عميقة، تؤدي إلى تلاقح رؤانا، وإلى إخراج ناتج جديد، يقوي الثوابت المشتركة التي تمثل الحد الأدنى من متطلبات النهوض والبناء.
وُلدت أكثرية الشباب المنخرطين في الحراك الثوري الراهن، في حقبة الانقاذ. ولقد شهدوا في هذه الفترة تراجع دور المثقف، وهامشيته، كما شهدوا تسيد المفاهيم الدينية القروسطية، المحمية بقوة السلطة،
نحن لا نزال نسير في حواراتنا، في خطوط متوازية. ولقد سبق أن أشرت إلى أن أكثريتنا لا تزال مسجونة في تواريخها الحزبية، وسردياتها الحزبية الداخلية، وتصوراتها القديمة التي ترى في الذات، أو في الكيان الحزبي، المنقذ الوحيد.
على الرغم من أن الميديا الحديثة، ووسائط التواصل الاجتماعي، قد كسرت القيود الحكومية على حرية الرأي، بما خلقت من منصاتٍ مفتوحةٍ لتبادل الآراء، إلا أن هذه المنصات لا تزال مفعمة باللاموضوعية، وبضيق الصدر، وقصر النفس، وانعدام الحس الديمقراطي. وهذا ما ينتهي بالحوارات، في كثير من الأحيان، إلى إطلاق الاتهامات، والتخوين، بغية إرهاب صاحب الرأي المخالف، وإخراس صوته.
وُلدت أكثرية الشباب المنخرطين في الحراك الثوري الراهن، في حقبة البشير التي اتسمت بتراجع دور المثقف، وهامشيته، وتسيد المفاهيم الدينية القروسطية، المحمية بقوة السلطة
إقرأ أيضا: المهدي يقدم للبشير "كبسولة التحرير".. ماذا تتضمن؟
وهذا شعور صحيح ومحق. فلقد يئس الشباب منا، نحن الكبار، وهم في ذلك محقون. فحتى الابن والبنت، في العائلة الواحدة، يحنقان على أبيهما وأمهما إن كانا مقصِّرَيْن. لكن، مع ذلك، لا بد من فهم لماذا تقدم الآخرون وتأخر السودان. ولابد ألا ننزلق في إجابتنا، إلى الاجابة البسيطة السهلة، التي تقول: إن النظام الحالي هو السبب. مع كامل العلم بأن النظام الحالي هو الأسوأ في كل حقبة ما بعد الاستقلال، وهو الذي أوصل الأمور إلى نقطة الانفجار. باختصار شديد، نحن لم ندخل مرحلة الحوار المعافى بعد، فهي، في تقديري، مفتاح التغيير المضطرد. ولا يعني هذا أن نوقف الثورة، وننخرط في الحوار بيننا. فلتستمر الثورة، وليبدأ الحوار الهادئ الموضوعي الصبور.
ويجب ألا نقع في أسر مقولة الناصرية المضللة: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". فالحماس والجرأة والشجاعة شروط ضرورية لنجاح أي ثورة، لكنها لا تخلق، وحدها، ثورة مستدامة. فالثورة لدى الدقة: "علمٌ وعملٌ بمقتضى العلم". ولابد من أخذ الدروس والعبر، من التاريخ، حول أسباب الثورات الفاشلة.
إقرأ أيضا: مفكر سوداني يتهم سياسيي بلاده بأنهم أصحاب فكر انقلابي
مفكر سوداني يتهم سياسيي بلاده بأنهم أصحاب فكر انقلابي
قيادي في حزب الترابي ينتقد إعلان الطوارئ ويتمسك بالإصلاح
ناشطة سودانية تدعو إلى إسناد شعبي للحراك الثوري