"الجيوش النظامية هي من سيقوم بهذه المهمة".. كان هذا هو الصوت الذي علا وتردد صداه في المشرق العربي حين وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وتبدت الملامح الجديدة للوجه الأكثر سوءا للاستعمار الغربى، أما المهمة فكانت حكم الشعوب ووضعهم في الدائرة المغلقة للتخلف والجهل والمرض، لصالح إسرائيل الناهضة من جهة، ولمنع نهوض الإقليم العربي كله من جهة أخرى. إسناد هذه المهمة للجيوش لم يكن فقط لكونها تمتلك القوة المسلحة، وليس فقط لأن أغلبها ترعرع على أيدي القوى الاستعمارية، ولكن، وهذا هو الأهم، للسهولة الكاملة في السيطرة على البلاد والعباد من خلالها، أيضا الاكتشاف المبكر للتحولات الفكرية والاجتماعية الجارية في المجتمعات، ذلك أن الجيوش في الأساس تمثل قطاعا عرضيا من المجتمع، خاصة بعد أن تم فتح أبواب الكليات العسكرية لأبناء الطبقة المتوسطة من الموظفين وصغار التجار وصغار ملاك الأراضي، وسيكون لبعض المستعمرات شأن آخر في إحكام السيطرة، وسيتم تقسيم وتوزيع مساحتها على إمارات وممالك تتولاها أسر وعائلات.
أنت الآن في تعاملك مع تلك "المستعمرات" ما عاد الأمر يحتاج إلى جنودك وجيوشك، وهي التي بالأساس خرجت منهكة من تلك الحرب الكبرى فقط ستتعامل مع "عائلة" و"جنرال"، فلا مكان للقوى السياسية والأحزاب والكيانات المجتمعية. وسرعان ما تم ترتيب كل الأوراق والملفات على نحو جديد.
هذه الدولة لم يترسخ مفهومها الصحيح على الأرض بأي معنى من المعاني السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتم تعطيل المجتمع تعطيلا تاما لحساب بناء "سلطة" تلك الدولة في أشد صورها المركزية والقهرية والقمعية
يقولون إنه من يغفل عن تطور التاريخ يغفل عن نفسه ومصالحه ومصيره، وما سيكتبه التاريخ بدأ من 2 أيلول/ سبتمبر 1945م (إعلان نهاية الحرب الثانية بعد استسلام اليابان) سيختلف تماما عن ما قبله. المنطقة العربية ذات خصوصية بالغة في تلك المستعمرات، فهي أرض الإسلام، ولأوروبا في علاقتها بالإسلام شأن طويل، وهي أيضا بلاد الطاقة وثرواتها، وهي الوسط الجغرافي للعالم. وليشهد
العالم العربي بعد ذلك، وعلى عين ورعاية الاستعمار القديم بناء "الدولة الحديثة" في أشد صورها المشوهة، وهي الدولة التي لم تكن يوما دولة، فلا هي تعاقدية ولا مؤسسية، ولم تمثل المجموع الأعم للمواطنين في أي يوم من الأيام، وإن ادعت غير ذلك. هذه الدولة لم يترسخ مفهومها الصحيح على الأرض بأي معنى من المعاني السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتم تعطيل المجتمع تعطيلا تاما لحساب بناء "سلطة" تلك الدولة في أشد صورها المركزية والقهرية والقمعية، والتي استولت على هرمها ومؤسساتها الصفوة "العسكرية" و"الملكية".
وقامت تلك "الدولة" كسلطة مطلقة متعالية، وألحقت كل مؤسسات الدولة بتلك السلطة، وكبحت كل طاقات القوى الحية في المجتمع الذي سيطرت عليه وأخضعته وسخرته في خدمتها وأعادت إنتاج معادلة "السلطان والرعية" بشكل حديث. وهكذا، بدأت "الدولة الحديثة" في العالم العربي على أنها "كائن أسطوري" بعيد عن المحاسبة، ولجأت كل قوى السلطة لتسخير كل قوى المجتمع، ومن يخرج عن هذا المسعى تتم تصفيته بقسوة لافحة، وأخذ كل فرد من تلك الرعية المقهورة يسأل عما تريده السلطة منه لينال رضاها بأي شكل، حاملا أساه وقهره وظلمه في داخله. وسيكون علينا أن نمر بكل هذا السيناريو المدهش في العام 1952م، إذ سنرى انهيار وتحطم الملكية الفاسدة من تلقاء نفسها (جبل القاذورات كما وصف تقرير خبراء الخارجية الأمريكية 1949م عن النظام الحاكم في
مصر). سيلتقي جمال عبد الناصر وأنور السادات في آذار/ مارس 1952 بكيرميت روفلت ومايلز كوبلاند، وسيخبرهما الزعيم الخالد والقومي الكبير بأن الجيش سيقوم بانقلاب، واتفقت وجهة نظر الجميع على أن البديل عن هذا الانقلاب هو ثورة شعبية يقودها
الإخوان المسلمون. وأضاف ناصر في هذا اللقاء أن "تطلعات الشعب المصري محدودة"، وأن "المصريين قد عاشوا على الكفاف آلاف السنين ويمكنهم العيش على ذات النمط لمدة ألف عام أخرى".
سيكون على أهم "تنظيم أهلي" وقتها في مصر أن يسدد ثمنا غاليا جدا أثناء هذه الرحلة المشؤومة، وهو الثمن الذي كان لا بد من سداده
وبعد ثلاثة شهور سيقوم الجيش بالانقلاب الذي تحول إلى ثورة! وتقدم له أمريكا مساعدات أمنية ضخمة، ويقوم مايلز كوبلاند وكيرميت روزفلت بتنظيم الأجهزة الأمنية على أحدث وأقوى تكوين، ومعهما زكريا محيي الدين وصلاح نصر، لتبدأ رحلة تدمير الإنسان العربى في بلادنا من أجل إقامة المجتمع الجديد!! وليفتتح الأفق الرهيب للديكتاتوريات العربية كلها، وسيكون على أهم "تنظيم أهلي" وقتها في مصر أن يسدد ثمنا غاليا جدا أثناء هذه الرحلة المشؤومة، وهو الثمن الذي كان لا بد من سداده جراء خلافاتهم الداخلية والتنظيمية من ناحية، وجراء سعى عبد الناصر إلى ضرورة الهبوط بالجانب الروحي في الشخصية المصرية إلى أدنى مستوى، فكان إبعادهم عن المجتمع في المعتقلات وجعلهم عبرة لمن ينادي بالفكرة الدينية الشاملة خارج نطاق المؤسسة؛ التي سرعان ما سيحاصرها عبد الناصر بإلغاء انتخاب شيخ الأزهر من هيئة كبار العلماء ليتم تعيينه بقرار جمهوري، وإلغاء الأوقاف التي كانت تحمي استقلال العلماء من سطوة السلطة، وسيقوم المثقفون المصريون بأخس الأدوار في هذا المشهد، فيتهافتون على السلطة واحتلال المناصب الحكومية، ويتحولون إلى انتهازيين وأحيانا إلى لصوص، ويكون على الشعب الطيب بعدها أن يلتهمه نوع من الدمار المجهول! فيتخذ المنحنى مسار التردي والانحدار بسرعة شديدة ومروعة للغاية، ويستيقظ الناس على خبر اقتراب الدبابات الإسرائيلية من القاهرة، لكن موشي دايان لم يشأ أن يحكم شعبا من (..) على ما قاله وقتها، ليس سوى التاريخ من يمكنه أن يحكم على كل هذا الضياع.
ولتستمر الرحلة المشؤومة بتنويعات تاريخية متنوعة عبر حلقات القهر المتصل، وليصبح الإنسان العربي بناء هشا في مواجهة رياح عاتية.
المسألة الآن تحتاج إلى وقفة ضرورية في حياتنا السياسية والفكرية والاجتماعية، فالتيار السياسى الإسلامي (التنظيم الأهلي) والصوت التاريخي للفكرة الدينية يمر بظروف صعبة نتجت عن تكرار للخطأ التاريخي في الاصطدام بالسلطة وتخليه عن السياسة لإدراك أفق المستقبل
حتى يفلت زمام كل شيء في 25 كانون الثاني/يناير 2011م وتقوم ثورة، هكذا بدت وبدأت، وتأتي للتيار الإسلامي العريض (أهم تنظيم أهلي كما يقول المستشار البشري) فرصة من تلك التي لا تأتي في العمر مرتين، ليقوم بالمهمة التاريخية والحضارية الكبرى (بناء الإنسان)، وحرث المجتمع وزرعه زرعا
بالفكرة الإسلامية أولا وقبل كل شىء، لكنه يُقبل بخطوات واسعة على محنة السلطة والحكم بمحض اختياره! كشراع مشتاق إلى بحار مجهولة، قابضا على سلطة من الأطلال!! تاركا "الإنسان" نهبا لحرائق من لهب دولة يوليو المستعر في كل أركان دولة الأطلال والفساد. لكن المسألة الآن تحتاج إلى وقفة ضرورية في حياتنا السياسية والفكرية والاجتماعية، فالتيار السياسى الإسلامي (التنظيم الأهلي) والصوت التاريخي للفكرة الدينية يمر بظروف صعبة نتجت عن تكرار للخطأ التاريخي في الاصطدام بالسلطة وتخليه عن السياسة لإدراك أفق المستقبل، لكن "الفكرة الدينية" لن تغيب أبدا عن دورها الأصيل في الميلاد الجديد والبعث والنهوض، وستظل هي الحقيقة الأكمل في وسائل النهضة والبعث في عالم الأشياء والأشخاص والأفكار، كما قال مالك بن نبي رحمه الله (فنهضة مجتمع ما تتم في نفس الظروف العامة التي تم فيها ميلاده الأول). الواقع والتاريخ يقولان ذلك أولا، وثانيا، إن الأفكار تتطور من الأفكار والتجارب تتوالد من التجارب. وفكرة الإصلاح الإسلامي الذي قام متسائلا عن أسباب "التأخر هنا والتقدم هناك"؛ مرت بمراحل تطور ونضج واكتمال استند بعضها إلى بعض وامتد بعضها من بعض. وسيظل اليقين الصافى يملأ الوعى والعقل والروح بأن "الدين" هو نقطة الانطلاق الأكمل والأوفق والأصوب للتغيير الاجتماعى والبناء الإصلاحي الحقيقي.
والمؤكد أننا لن نغير الماضي، لكننا نتمنى غدا صالحا.